حول الثورة ! ونَسَة مع عصمت الدسيس
طه جعفر الخليفة
هل تعاملت القوي السياسية مع تجمع المهنيين ولجان المقاومة كما يجب؟
كان هذا السؤال موضوع حوار استمعت فيه لفكرة الصديق الغالي عصمت الدسيس. قال عصمت القوي الساسية حديثة أو تقليدية تعاملت مع تجمع المهنيين ولجان المقاومة بنفس أسلوب تعاملها مع جبهة الهيئات 1964م والتجمع الوطني الديمقراطي 1985م وكان مجمل ذلك تخريب كامل لهذين الجسمين الجديدين خاصة من ناحية تعامل الأحزاب مع شعارات الثورة التي نادت بها لجان المقاومة وتجمع المهنيين ، حيث كان المفروض أخذ شعار “تسقط بس” بما يعني وهو كنس جميع الركام الإداري المعطوب والفاسد والإجرامي الذي كان في خدمة الحركة الإسلامية وأهدافها مما يسمي بجهاز الدولة مدني أم عسكري. وشعار حرية ، سلام وعدالة يشترط المحاسبة وإنهاء الحروب وإبعاد الجيش وغيره من أجهزة أمن عن الساسية والإقتصاد بالكامل. خضعت لجان المقاومة وتجمع المهنيين للإستقطاب الحاد الذي أدي في النهاية لتشتتها وعدم قدرتها علي سوق مشروع ثورة ديسمبر نحو أفق التحقق.والسؤال هنا هل كان للقوي السياسية إسلوب محدد في التعامل مع تحالفات إتمام التغيير وإسقاط أنظمة الحكم الإنقلابي ؟
الشعار الأساسي في ثورة أكتوبر كان “إلي القصر حتي النصر” وكان أن تم تحقيق ذلك عن طريق جموع المتظاهرين تحت قيادة جبهة الهيئات الذين نحجوا في محاصرة القصر الجمهوري وأجبروا قائد الإنقلاب ابراهيم عبود علي التنحي.
جبهة الهيئات يرتبط إسمها باساتذة جامعة الخرطوم البرفسير علي محمد خير ، نقابة المحامين واتحاد الطلاب. من المحامين الأساتذة عابدين إسماعيل وفاروق أبوعيسي ومن الأطباء الدكتور عبدالحليم محمد . توسعت جبهة الهيئات بمشاركة البياطرة واتحاد طلاب جامعة الخرطوم واتحاد المزارعين وغيرهم وكانت إجتماعاتهم بدار أساتذة جامعة الخرطوم. كانت عضوية جبهة الهيئات رافضة لمشاركة الأحزاب فيها أو في قيادة الإحتجاجات. فقط جبهة الميثاق (الترابي وعثمان خالد أصرأ علي ضم الأحزاب عدا الحزب الشيوعي السوداني) وفي المقابل كانت أحزاب الأمة والوطني الإتحادي وحزب الشعب الديمقراطي يطالبان بحل جبهة الهيئات وكان خوف الأحزاب وعلي رأسهم جبهة الميثاق هو فتح الطريق أمام الحزب الشيوعي السوداني السوداني الذي يتراوح وضعه بين الحظر والسماح وقتها ليسيطر علي جبهة الهيئات والفترة الإنتقالية. إستفادت الأحزاب الأخري والحزب الشيوعي من هذا الجو وإعترفت جميع الأحزاب السودانية علي فك حظر الحزب الشيوعي والسماح له بالممارسة السياسية العلنية. تصدعت جبهة الهيئات عقب ليلة المتاريس وكانت تلك هي الإحتجاجات التي قادهه المهنيون والنقابات والحزب الشيوعي لرفض قرارات عبود بفصل وإعتقال الضباط الذين إنحازوا لثورة أكتوبر. الخلافات في جبهة الهيئات حول هذه المواكب ومبدأ مششاركة الأحزاب أدت علي حسب ما تري دكتور فدوي عبدالرحمن علي طه إلي تصدع جبهة الهيئات. من المرجع أدناه تلاحظ رفض الأحزاب التقليدية والأخوان المسلمين لجبهة الهيئات ومحاربتها من البداية. للمزيد يمكنك مراجعة الرابط أدناه. إستصحاب أجواء الستينات في المنطقة مهم . يجب الإنتباه لحقيقة أن مشروعات القوميين العرب واليسار العربي والأفريقي ، كانت متقدمة ولم يكن هنالك مشروع وطني تحرري إسلامي. كان الإسلاميون في حالة صدمة وردة ثقافية حولتهم إلي قوي مرذولة سياسيا وفكريا لأنه أعداء للمنجز الحضاري الإنساني العام .
راية اكتوبر فينا
محمد المكي إبراهيم
إنني أؤمن بالشعب
حبيبي وأبي
وبأبناء بلادي الشرفاء
الذين اقتحموا النار
وكانوا بيد الشعب مشاعل
وبأبناء بلادي البسطاء
الذين انتفضوا في ساحة المجد
فزدنا عددا
وبأبناء بلادي الشهداء
الذين احتقروا الموت
وعاشوا أبدا
ولأبناء بلدي سأغني
للمتاريس التي شيّدها الشعب نضالا وصمودا
ولأكتوبر مصنوعا من الدم
شهيدا فشهيدا ..
وله لما رفعناه أمام النار
درعا ونشيدا
وله وهو يهز الأرض من أعماقها
ذكرى وحيدا
ولتكن عالية خفاقة
راية أكتوبر فينا
ولتعش ذكراه في أعماقنا
حبا وشوقا وحنينا
وليكن منطلق الشعب
بإيمان جديد بالفدا
وبإيمان جديد بالوطن
(طه، 2019)
ثورة مارس أبريل
لن يحكمنا أمن الدولة
جيش واحد شعب واحد
لن يحكمنا البنك الدولي ولن تحكمنا بقايا مايو . انتصار الثورة عبر المواكب التي حررت المعتقلين السياسيين من سجن كوبر كان عنوان إنتصار الإنتفاضة. تكوّن التجمع الوطني الديمقراطي وأنجز إجتماعه الأول في يوم 6 ابريل 1985م . قاد الإنتفاضة ناشطون من المهنيين والأحزاب والنقابات والطلاب. عندما تكون التجمع الوطني الديمقراطي وأصدر ميثاقه كان يتكون من الأحزاب السياسية و المهنيين والنقابات واتحاد المزارعين وأتحاد طلاب جامعة الخرطوم. هذه وجه إختلاف مهم بينه وبين جبهة الهيئات. حيث أن الحزب الشيوعي لم يكن موضوعا في قوائم الحظر ويعود ذلك لفضيحة الإسلاميين في إعدام الإستاذ محمود محمد طه وفضيحة قوانين سبتمبر وعلاقتهم بالفساد ويعود أيضا لتمرغ حزب الأمة في تراب نظام مايو المنتن. لم تكن القوي السياسية وقتها مدركة لحجم التمكين الذي أنجزه الترابي لكوادره في الجيش والشرطة والخدمة المدنية.
كانت الحركة الإسلامية حاضرة في حالتي ثورة أكتوبر وإنتفاضة أبريل في الأولي كانت في صف المعارضة الحزبية الناعمة والتي لامانع لها من اللحاق بركب إنقلاب عبود بعد إصلاحه ، أما في أيام إنتفاضة أبريل كانت الحركة الإسلامية قد بدأت بالفعل عمليات التمكين وكانت ممثلة عبر قياداتها في الإتحاد الإشتراكي بعد أن صار النميري خليفة للمسلمين علي حسب بلادتهم السياسية وكذبهم وتلفيقهم. في الحالتين إنحاز قسم من الجيش لقوي التغيير.
مما سبق لا نلاحظ ما يمكن أن نسميه بخطة عمل مدروسة من الأحزاب الكبيرة لمجابهة جبهة الهيئات ولا التجمع الوطني الديمقراطي. في حالة أكتوبر كان العداء سافرا لجبهة الهيئات وكان دعم أحزاب الأمة والإتحادي للإنقلاب واضح. أو حالة إنتفاضة أبريل فلقد كانت هنالك حالة من الوحدة الضعيفة بين القوي غير الإنقلابية والتجمع الوطني أساسها الوقوف ضد الحركة الإسلامية. محجوب شريف يقول
بلا وانجلى
بلا وانجلى
حمد الله الف على السلامه
إنهدّ كتف المقصله
والسجن .. ترباسه انخلع
تحت انفجار الزلزله
والشعب .. بى أسرو اندلع
حرر مساجينه وطلع
قرّر ختام المهزله
يا شارعاً .. سوّا البِدَع
أذهلت أسماع الملا
كالبحر .. دواى الجلجه
فتحت شبابيكا المدن
للشمسِ
واتشابا الخلا
في حالة ثورة ديسمبر كانت الحركة الجماهيرية أكثر تنظيما حيث بدأت لجان المقاومة كفكرة في الظهور بعد القمع الوحشي لهبو سبتمبر 2013م و في 2016 بدأت نواة تجمع المهنيين. أما في مربع المعارضة فكان قسم كبير من قوي المعارضة قد إقتنعوا بمشروع الهبوط الناعم الذي سيوفر لهم نوع من الشراكة أو إقتسام السلطة مع الحركة الإسلامية التي تمكنت تمام من تحويل الجيش والشرطة وجهاز الأمن لمليشيات تابعة لها. بقية القصة المأساوية معروفة ولا داعي لنكأ الجراح.
بالعودة للحوار مع الصديق عصمت الدسيس. يلوم عصمت القوي السياسية والمدنية علي عدم السماع لقول الجماهير في الشارع فهو يري أن شعار تسقط بس يعني كنس جميع عناصر الحركة والإسلامية من جهاز الدولة ، مدني وأمني عسكري بجميع توابعه م من مليشيات متفقة مع النظام (حركات دارفور وحركة شعبية) أو أجيرة له كحالة حميدتي والجنجويد. تسقط بس شعار يعني طرد الإسلاميين من جهاز الدولة ومحاسبتهم علي جميع الإنتهاكات في الجنوب ودارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ونزع ممتلكاتهم التي حازوها عبر آليات الفساد ونهب موارد الدولة. شعارات الثورة العسكر للثكنات والجنجويد ينحل واضحة ومحددة. هذه هي المطالب وليس الشراكة وإقتسام السلطة معهم.
ويعتقد عصمت أن ما ورثناه عن نطام حكم الإسلاميين هو ركام إداري وليس دولة أو نظام . ركام إداري مهمته الأساسية هي الجريمة علي شاكلة نهب الموارد ، تفتيت النسيج الإجتماعي وصناعة الحروب لتحقيق مكاسب مادية من بيع الموارد ومقدرات الوطن لا بل بيع الجندي السوداني في ظاهرة نخاسة عسكرية أدارتها الحركة الإسلامية. نسيت القوي المدنية هذه الحقيقة ولم تتبني مشروع إعادة تأسيس الدولة كجهاز إداري يخدم المواطن و يعكف علي صون حياته وحماية مصالحه وحراسة مكتسباته
لا عصمت ولا أنا نسينا الظرف المعقد الذي أحاط بالقوي السياسية جراء وجود الدولة العميقة للحركة الإسلامية في القطاع الأمني والعسكري والخدمة المدنية والجهات العدلية. لكننا نري أن القوي السياسية كان لزاما عليها الإعتماد علي لجان المقاومة وتجمع المهنيين والحفاظ علي إستقلاليتهما في تنفيذ شعارات الثورة. كان الأوجب أن تسمع القوي السياسية لهم وتفكر معهم في كيف يتم ذلك. هذا ما لم يحدث بل وقع العكس تماما كما يري عصمت الدسيس وهو أن القوي المدنية حفزت بعلم او دون علم عمليات التقسيم والتشظي التي ضربت تجمع المهنيين ولجان المقاومة.
سيكون لهذا الحوار بقية إذا ربنا مدّ في العمر.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة