أحمد عثمان جبريل
في مشهد سياسي يتغيّر كل يوم، يشهد السودان لحظة فاصلة بانهيار تحالف صامت بين الفريق البرهان والتيار الإسلامي، فيما تُطرح تساؤلات عن من فقد الثقة أولًا، ولماذا اختار الإسلاميون المواجهة علنًا الآن؟
❝ أصعب الخيانات هي تلك التي تأتي ممن ظننتهم حلفاء، لأنك لا تحتاط لها كما تحتاط من الأعداء. ❞
― نيكولو مكيافيلي
في مشهد السياسة السودانية، تُبنى الولاءات على الضرورة لا على المبادئ، لذلك ليس مستغربًا أن يخرج التيار الإسلامي ممثلًا في رموزه الإعلامية والتنظيمية عبر قنواته ومنصاته التي تدار علنا من تركيا، معلنًا، وبلا مواربة، أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان لم يعد حليفًا مضمونًا.. هكذا تتحدث علنا الحملة التي انتظمت ضده، بلغة لا تخفى حدّتها، وقد كشفت أن ما كان يُدار في الغرف المغلقة، بدأ يتسرّب إلى العلن، لا كخلاف عابر، بل كطلاق استراتيجي تم عن اقتناع.
ذلكم التحالف لم يكن يومًا علاقة حب، وإنما علاقة مصلحة. البرهان، القادم من عمق المؤسسة العسكرية، ابن الجيش لا ابن الحركة الإسلامية، ولو كان غير ذلك لما لهثوا خلفه ليسلمهم مفاصل السلطة على طبق من ذهب.. ولكنه تعامل معهم من موقع الحاجة بعد سقوط البشير.. كلٌ كان يحتاج الآخر، ولذلك منحهم صمته، ففسّروه قبولًا.. احتاج سكونهم، فبادلوه الدعم. وتواطأت المرحلة على التقاء الطرق: “هو بحاجة لغطاء شعبي وسياسي، وهم بحاجة لمتنفّس بعد الإقصاء.. كلٌ لعب لعبته، لكن كِلا الطرفين كان يدرك أن هذا زواج مصلحة لا أكثر، وأن أول نُذُر الانفراج الدولي ستضعف جذوة الوفاق المؤقت.
بيد أن الإسلاميين لا يُجيدون الصمت حين يشعرون بأن الكرسي يبتعد.. وها هم بدأ صراخهم يسمع علنا.. فبعد أن تواترت مؤشرات التقارب بين البرهان وبعض المبادرات الدولية، خاصة تلك القادمة من (الرباعية) والتي تُخفي تحت لياقتها الدبلوماسية رغبة واضحة في طي صفحة الإسلام السياسي، بدأت نبرة “البلابسة” تتغيّر، من الدفاع عنه، إلى التلميح بخيانته.. من الترويج لحكمته، إلى الطعن في إخلاصه.. من الشراكة، إلى الاغتيال الرمزي.
لكنّ السؤال الأهم هنا.. ليس لماذا يهاجمونه الآن، بل “لماذا فقدوا الثقة فيه تحديدًا في هذا التوقيت؟”.
الواقع أنهم لا يهاجمون البرهان لأنه تغير، بل لأنه (لم يعُد يخدم مشروعهم كما كانوا يتوقعون).. لم يمنحهم ضمانات في أي تسوية قادمة، لم يعد يُظهر انحيازًا واضحًا ضد خصومهم، وربما وهو الأهم باتوا يعتقدون أن التوازنات الدولية والإقليمية تضغط عليه ليُقصيهم بهدوء، أو على الأقل، لا يُدافع عن بقائهم.. يقول لهم حديث ويفعل آخر .. بمعنى يشير بوضوح ان تقاربه الأخير مع مبادرات الرباعية، والتي تُفهم ضمنيًا بأنها لا ترحب بعودتهم للمشهد.
ثانيا: إعادة ترتيب المؤسسة العسكرية بطريقة تضعف نفوذ بعض القيادات المحسوبة عليهم، أو تُنهي أي مشروع موازٍ داخل الجيش.
ثالثا وهذا الأهم: تسريبات عن قبول البرهان بتسوية سياسية تشمل قوى ثورية ومدنية كانوا قد صُنّفوا كـ”خصوم أيديولوجيين” للتيار الكيزاني.
لكنّ من المؤكد أن البرهان، الذي بلغ “مفتشية الجيش” بعرق جبهات القتال والخبرات التراكمية وتراتبية الجيش، لا بنعومة السياسة، بعدما عركَ المؤسسة العسكرية من الداخل حتى أصبح قائدها الأعلى، لم يكن غافلًا عن هذا التآكل البطيء في الثقة. فمن خبر بيت الأفاعي، لا يضع يده دون حساب.. ومن قاد حربًا وجودية لثلاث سنوات ضد القوات التي خرجت من رحم القوات المسلحة، لا يترك ظهره مكشوفًا لخصم كان حليفًا بالأمس.. هو يدرك يقينًا أن السياسة، خاصة في السودان، لا تقاس بالولاء، بل بموازين القوى، وأن أي حليف لا يملك القدرة على الصمود، سيختار النجاة بنفسه عند أول منعطف.
ربما يكون البرهان قد قرأ تصريحات الإسلاميين وحديثهم عن (البلاد مقبلة على فوضى) وكذلك صمتهم في الفترة الماضية، وسمع الهمس، وراقب إعادة التموضع، لكنه من المؤكد لن يتعجل المواجهة.. فقد يختار أن يستنفد أوراقه واحدةً تلو الأخرى، حتى تصل لحظة المكاشفة.. وها هي الحملة الإعلامية ضده تُعلن لحظة المكاشفة و الانفصال.. لحظة لا تفتقد دراما السياسة، ولا مكر التنظيمات، ولا حسابات من يعرف أن لحظة الخروج من المشهد قاسية، ومُهينة لمن اعتاد السلطة.
وحتى يبلغ الأمر ذروته ويتهيأ الإسلاميون لتحريك الشارع أو كسب ما تبقّى لهم من نفوذ داخل الجيش، خشية أن يتم دفن مشروعهم مع أي تسوية سياسية قادمة، يبدو البرهان في وضع لا يُحسد عليه.. فإن هو خضع للضغوط الدولية وأقصاهم، جلب على نفسه سُخط خصوم يعرفون جيدًا مفاصل الدولة وأسرارها.. وإن هو حافظ على علاقته بهم، خسر رصيد الثقة الدولي، وربما فُرض عليه العزل الناعم تحت لافتات “الانتقال المدني”.
بقى ان نقول: إن كانت الرباعية الدولية، تتابع ما يجري، ستدرك أن السودان لا يتحمّل تسويات سطحية تتجاهل عمق شبكة المصالح داخل الجيش والدولة العميقة.. أما الشارع السوداني، فقد اعتاد أن يرى التحالفات تتكوّن وتنفرط، لكنّه هذه المرة يرقب مشهدًا أكثر تعقيدًا: خروج الإسلاميين من عباءة البرهان، لا يعني بالضرورة خروجهم من المشهد.. وربما كان في صراعه معهم الآن ما يحدد إن كان سينجو كقائد مرحلة، أم يُلقى على قارعة السياسة كلاعب انتهت صلاحيته.
وهكذا، في بلادنا التي اعتادت أن تتقاطع فيها خطوط المبدأ والمصلحة، لا تعود الخيانة وجهًا لعدو، بل خيارًا اضطراريًا لحليف شعر أن المعركة تقترب من خواتيمها.. وهو خارج الحسابات.. إنا لله ياخ..الله غالب
المصدر: صحيفة التغيير