حماية المدنيين في السودان.. الحاجة الملحة والمعضلات العملية..!!
حماية المدنيين في السودان في ظل الحرب العشوائية الحالية تبدو أمراً معقداً وبحاجة إلى ضغط وتنسيق وخبرات داخلية وخارجية لتطبيقه وفق مراقبين.
بورتسودان كمبالا: التغيير
ما زالت الحاجة الإنسانية الملحة في السودان تحتاج إلى تدخل أممي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل التصعيد العسكري المستمر بين طرفي الصراع “الجيش وقوات الدعم السريع” منذ اندلاع حرب 15 أبريل العام الماضي، إلا أن هذه الحاجة تواجه معضلات عملية في مقدمتها حق النقض “الفيتو” الذي تستخدمه بعض الدول داخل مجلس الأمن الدولي.
هذا الواقع يطرح تساؤلات حول ما هي السيناريوهات العملية الممكنة لحماية المدنيين، هل من خلال إقامة معسكرات أم مناطق حظر طيران؟!.
إجهاض القرار
وكانت روسيا استخدمت “الفيتو” لإجهاض مشروع قرار تقدمت به بريطانيا وسيراليون وتدعمه القوى المدنية السودانية لإنشاء مناطق آمنة منزوعة السلاح لحماية المدنيين بالسودان ووقف العدائيات.
ورغم استخدام روسيا للفيتو ضد القرار إلا أن الحاجة لحماية المدنيين لاتزال قائمة وملحة في ظل الانتهاكات المتكررة التي يقوم بها طرفا الصراع في السودان من قصف بالطيران والقصف المدفعي والتهجير الممنهج للمدنيين.
ورأى مراقبون أن الطرفين لن يتوقفا عن الانتهاكات ضد المدنيين إلا بوجود مناطق معزولة للحماية.
وشددوا على ضرورة تدخل المجتمع الدولي لإيقاف المجارز التي ترتكب في حق الشعب السوداني الذي أصبحت قضيته منسية ولا تجد الاهتمام.
وطالبوا الجيش والدعم السريع بضرورة التقيد بالقانون الدولي الإنساني وقواعد الاشتباك لإيقاف نزيف الدم وسط السودانيين.
ردود فعل متباينة
وأبدى عدد من المختصين تحفظات حول دلالات الفيتو الروسي على تطورات الأزمة السودانية في البعدين الدولي والإقليمي، إلا أن الحكومة التي يسيطر عليها الجيش سارعت إلى الترحيب بـ”الفيتو” الروسي ضد مشروع القرار البريطاني.
وقالت الخارجية السودانية في بيان إن “الموقف الروسي جاء تعبيرًا عن الالتزام بمبادئ العدالة واحترام سيادة الدول والقانون الدولي ودعم استقلال ووحدة السودان ومؤسساته الوطنية”.
من جهتها، استنكرت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، الموقف الروسي الذي رأت أنه يشكل غطاءً لاستمرار المذابح في السودان ويعيق جهود التصدي لأكبر مأساة إنسانية في العالم، ويترك الشعب السوداني يرزح تحت شبح الجوع والمرض والفقر.
جرائم حرب
ومنذ منتصف أبريل 2023 تدور حرب طاحنة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، واتُّهم الطرفان بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من خلال استهداف المدنيين ومنع وصول المساعدات الإنسانية واستخدام الغذاء كسلاح لتجويع ملايين المدنيين.
وفي مارس الماضي، دعا مجلس الأمن إلى وقف فوري لإطلاق النار في السودان خلال شهر رمضان، وهو قرار لم يتم الالتزام به.
وفي يوليو الماضي، طالب المجلس قوات الدعم السريع بإنهاء حصار مدينة الفاشر، ووضع حد للقتال حول المدينة الكبرى في إقليم دارفور التي يسكنها مئات آلاف المدنيين، وهو الأمر الذي لم يحدث.
إمكانية تطبيق الحظر
ورأى خبير دبلوماسي أن قرار حظر الطيران في السودان سيواجه بسلسلة من التعقيدات أبرزها صعوبة الحصول على تصويت مجلس الأمن بالإجماع في ظل تلويح روسيا باستخدام حق النقض “الفيتو”، إلى جانب عدم استعداد المجتمع الدولي لإرسال قوات دولية لمراقبة قرار حظر الطيران على الأرض.
وقال لـ(التغيير): “في حال تطبيق حظر الطيران في أي دولة لابد من قوات مراقبة على الأرض تتدخل عندما يحدث اختراق للمجال الجوي قيد الحظر وفي بعض الأحيان تشن ضربات استباقية وفي وضع السودان هذا مستبعد جداً.
وأوضح المصدر الدبلوماسي أن اتخاذ قرار حظر الطيران بشكل أحادي مستبعد جدا سيما من جانب الولايات المتحدة الأميركية والتي لديها تجارب مماثلة وصلت جميعها إلى حالة من الفشل وتأليب الرأي العام عليها.
وأضاف أن المطالبة بحظر الطيران تحت دعاوى حماية المدنيين غير منطقية لأن الأولوية منع وقوع الهجمات على المدنيين وردع الطرف العسكري الذي لديه سجل حافل من الهجمات بحق المدنيين.
تفعيل اتفاق جدة
وأشار المصدر الدبلوماسي إلى أن المجتمع الدولي لديه وسائل أكثر نجاعة لحماية المدنيين فيما يتعلق بالوضع في السودان مثل تفعيل اتفاق جدة بنشر بعثة مراقبة على الأرض وتأسيس آليات متابعة ونشر التقارير حول الأطراف العسكرية التي تتورط في الانتهاكات بحق المدنيين.
ولفت إلى أن المناطق المشمولة بحظر الطيران يجب أن تتحول إلى مناطق آمنة جداً باتفاق جميع الأطراف العسكرية وفق اتفاق مكتوب وموقع عليه بين قادة الطرفين المتحاربين والسماح بحرية حركة المدنيين وفقا لإجراءات بعثة مراقبة ذات طبيعة مدنية.
وتابع الدبلوماسي: “لا يوجد أدنى تقارب بين الجيش والدعم السريع للاتفاق على البنود المتعلقة بحظر الطيران بالتالي لن يكون ممكنا تنفيذه أو مجرد التلويح به”.
صعوبة التنفيذ
من جهته، اعتبر الخبير الأكاديمي د. النور حمد، أن من أصعب الأمور تنفيذاً حماية المدنيين في الحروب، خاصة في الحروب التي تجري داخل البلد نفسه. فالحرب التي تجرى بين بلد وآخر، كما كان في الماضي، وفقا لأساليب الحروب التقليدية، فإنها تجري في العراء بعيداً عن المدن.
وقال لـ(التغيير): “على سبيل المثال فإن الحرب التي دارت بين إسرائيل ومصر في عام 1967 كان مسرحها منطقة قناة السويس وصحراء سينا، ولم تتأثر بها العاصمة المصرية القاهرة، بأي قدر. غير أن بعض مدن القنال تأثرت بقدر قليل”.
الحرب العالمية
وأضاف حمد: “لو نحن رجعنا ثمانين عاما الى الوراء وألقينا نظرة على الحرب العالمية الثانية فإننا نجد أنها قد أهلكت أكثر من 45 مليونا من البشر، وأن مدنا بأكملها قد جرت تسويتها بالأرض. ولنا أن نتصور كم من المدنيين قد ماتوا وكم الذين جرى تهجيرهم اثناء تلك الحرب التي شملت كل اوروبا وأجزاء من آسيا. لقد تعرض الملايين للإبادة الجماعية كما جرى أخذ المدنيين رهائن وتعرضوا للنهب وللتعذيب وللتجويع والاغتصاب والتغييب القسري وكل ما يخطر على البال من فظائع”.
ولفت إلى أنه “لا ينبغي أن ننسى أن نذكر في هذا السياق إلقاء قنبلتين نوويتين في نهايات تلك الحرب، بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، على مدينتي هيروشيا وناجازاكي في اليابان. فقد مات من جرائهما عشرات الآلاف في التو والحين. ومات مئات الآلاف لاحقا بسبب الإشعاع النووي الذي تعرضوا له”.
اتفاقية جنيف
وأشار حمد إلى أن “هذه الفظائع التي عانى منها المدنيون هي التي أتت بإتفاقية جنيف الرابعة في عام 1949، الخاصة بحماية الأشخاص المدنیین فى وقت الحرب. وقد تمدد نطاق الحماية في هذه الاتفاقية ليشمل الأعيان المدنية العامة والخاصة، وكذلك، حماية الفئات الأكثر ضعفا كالنساء والمسنين والأطفال والمهجرين. ولا تحمي هذه الاتفاقية من حمل السلاح من المدنيين. وقد كانت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 هذه تطويرا لاتفاقيات سابقة كانت قد انحصرت في حماية الجنود الجرحى والأسرى والمرضى دون غيرهم”.
وذكر أنه “عقب إخراج الجيش العراقي من الكويت اشتعلت انتفاضة مسلحة ضد نظام صدام حسين في جنوب العراق قام بها الشيعة الأمر الذي عرض المدنيين الشيعة لحملة تأديبية قادت إلى فرض حظر للطيران في جنوب العراق”.
عمل مقصود
وقال حمد “إن الحرب الجارية الآن في السودان جرى إشعالها في قلب مدينة الخرطوم التي يعيش فيها ربع سكان القطر. لذلك فقد بلغ التهجير في هذه الحرب أكثر من عشرة ملايين، غالبيتهم العظمى من سكان الخرطوم”.
وأضاف: “ليست هناك إحصاءات دقيقة بمن مات في الخرطوم من المدنيين منذ اشتعال هذه الحرب، لكنني أقدر عددهم بمئات الآلاف. وقد أهلكت حرب دارفور التي ظلت مشتعلة منذ عام 2003 قرابة نصف المليون وجرى تهجير حوالي الثلاثة ملايين شخص”.
وتابع: “كان قتل المدنيين وحرق قراهم واغتصاب النساء عملا مقصودا لذاته ضمن حملة للتطهير العرقي ولم يأت عرضا نتيجة لوقوع المدنيين في دائرة الحرب. وقبل ذلك، قضى في حرب الجنوب على مدى عقود مليونا شخص بسبب الحرب ومضاعفاتها”.
حرب قذرة
وتابع د. النور حمد: “عموما الحرب الجارية الآن حرب بالغة القذارة يجري فيها استخدام خطاب الكراهية العرقية كما يجري فيها تسليح المدنيين فيختلط المدني حامل السلاح بالمدني غير الحامل للسلاح، الأمر الذي يجعل حماية المدنيين عملا غاية في الصعوبة. فالطرفان يهمهما كسب الحرب ولا تهمهما من أجل تحقيق ذلك سلامة المدنيين. ففرض ممرات آمنة وأماكن آمنة للمدنيين تحتاج قوة عسكرية دولية مقتدرة تنزل على الأرض لتحمي الممرات الآمنة وأماكن الإيواء الآمنة”.
وأردف: “كما يحتاج أمولا طائلة لن تتوفر في الظرف الدولي الراهن. فكل الحديث الذي يجري في هذه الوجهة مجرد أماني من جانبنا كشعب وتخدير من قبل المنوط بهم تحقيق تلك الحماية. حماية المدنيين غير قابلة للتطبيق في هذه الحرب العشوائية والأفضل في نظري هو ممارسة أقوى الضغوط على الطرف الرافض للتفاوض ولإيقافها وهو حكومة بورتسودان والمتحكمين فيها من وراء الستار”.
إشكالية حقيقية
بدوره، قال المحلل السياسي محمد تورشين، إن مسؤولية حماية المدنيين تقع على عاتق الحكومة، والتقصير في هذا الملف يأتي في إطار عدم قدرة مجلس السيادة على استكمال الهياكل الحكومية بإعلان رئيس مجلس وزراء وكذلك وزراء ومسؤولين من الجانب الإنساني والخدمي”.
وأضاف لـ(التغيير): “المدنيون في المناطق الغير مشمولة بالحرب دواوين الخدمة المدنية فيها لم تعمل، وهناك إشكالية حقيقية في الجانب التعليمي والصحي، وفي المناطق المستهدفة المدنيين تركوا لأن يلقوا مصيرهم وهذا أمر مؤسف”.
فشل الحكومة
وشدد تورشين، “على ضرورة أن يكون هناك تنسيق وعمل بين الجهات المختصة من وزارة الصحة ووزارة الشؤون الإنسانية ومفوضيات العون الإنساني لتحديد مسارات بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية يتم من خلالها تحديد مسارات لإجلاء المدنيين المعرضين للهجوم العسكري”.
وأكد أن كثيراً من المدن بحاجة لهذا الأمر، فضلاً عن ذلك توفير معسكرات وحماية المدنيين غير مرتبطة بحظر الطيران، وإنما بالتزام الأطراف لأن الطيران خسائره محدودة، ولكن فشل الحكومة القائمة في تنظيم رحلات ومناطق آمنة لحماية المدنيين من قبل الدعم السريع يشكل تحدي حقيقي”.
وأوضح أن “عدم وجود رؤية متكاملة للحكومة حول هذا الأمر أسهم بشكل أو آخر في هذه الجزئية، لأن التحدى الآن يكمن في هل الحكومة ستفطن لهذه الجزئية وتعمل على توفير مناطق آمنة وعودة الحياة إلى طبيعتها لا سيما قطاعي الصحة والتعليم”.
وختم تورشين حديثه بضرورة أن يتم التنسيق بين وكالات الأمم المتحدة الإغاثية وكذلك مع أصدقاء السودان لأن الملف معقد ويحتاج لتضافر جهود والإستعانة بخبرات داخلية وخارجية.
المصدر: صحيفة التغيير