أنماط طرائق التفكير السوداني (١٨)

بقلم: عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي

الحرية: حلمٌ مؤجل عند العامة

ليست الحرية عند عامة الشعب السوداني ترفاً فكرياً أو مصطلحاً فلسفياً، بل هي في جوهرها حاجة يومية، وصرخة من الأعماق من أجل الحياة الكريمة. في خضم الحرب التي عصفت بالبلاد، تغيّرت معاني الحرية في وجدان الناس، فلم تعد مرتبطة بالشعارات أو النقاشات الفكرية، بل باتت مرتبطة بالحاجات الأساسية: الأمان، والخبز، والبقاء. عند المواطن السوداني البسيط، في القرى والمدن المنكوبة، الحرية تعني القدرة على التنقل دون خوف من رصاصة طائشة أو نقطة تفتيش مسلحة أو اتهام بالتعاون مع أي من المجموعات حسب نظرة المجموعات المتصارعة. تعني أن ينام الإنسان ليلاً دون أن يُقلق نومه دويّ المدافع أو صراخ الجوعى. الحرية اليوم، في نظر الأمهات اللاتي تهجرن من منازلهن، تعني وجبة لأطفالهن ومأوى لا تُقصف أسقفه.

هذه التحولات في فهم الحرية تعكس واقعاً مأزوماً لا يجد فيه الإنسان فسحة للتفكير في معاني الحرية التقليدية كما طُرحت في سياقات أكاديمية أو سياسية. الحرية هنا تتجرد من طابعها النظري، وتلبس ثوب النجاة. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية “الواقعية” للحرية لا تُنقص من قيمتها، بل تطرح سؤالاً كبيراً: هل يمكن الحديث عن حرية حقيقية في غياب الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية؟

في ظل اقتصاد مدمّر وبنية تحتية منهارة، أصبحت الحرية تعني النجاة من الفقر. فالبائع في السوق الشعبي لا يفكر في “حرية التعبير”، بل في حرية الكسب؛ أن يبيع دون أن يُسرق أو يُقهر أو تلاحقه رسوم المحليات وكثرة الجبايات وإثقال كاهله بالضرائب والمدفوعات الأخرى. العاملة التي تفترش الأرض لتبيع ما تبقى من متاعها، ترى في الحرية فرصة للعيش دون أن تُطرد أو تُهان باسم النظام الاجتماعي العام أو التحرش والنظرات الذكورية الأخرى.

هل يمكن اختزال الحرية في مجرد النجاة من الفقر والخوف؟ وهل يحق للسلطات أو الجهات المتصارعة أن تحتكر تفسير الحرية أو تسلب الناس حقهم في تعريفها بأنفسهم؟ الخوف صار الرفيق الدائم لكل سوداني. فالعسكري الذي يحمل السلاح في الشارع من طرفي الصراع، لا يُنظر إليه كرمز للأمن، بل كمصدر خطر. لذلك، أصبحت الحرية تعني التحرر من الخوف: الخوف من الاعتقال بأي تهمة كانت من الطرفين، من الاغتصاب، من التهجير، من القتل.

اللافت أن عامة الشعب لا يتحدثون عن “الحرية” كمفهوم سياسي. فهم لا يملكون ترف الجدل حول “الحرية الفردية” أو “حرية الإعلام” أو “حرية الضمير أو الاعتقاد أو التفكير”، لأنهم مشغولون بالنجاة اليومية والحفاظ على الحياة. لكن في صمتهم، وفي أعينهم المليئة بالحزن، وفي هجرتهم القسرية من بيوتهم، يظهر مطلبهم العميق: أن تُرفع عنهم أيدي القمع والقهر والذل والإهانة، أن تُحترم إنسانيتهم من أطراف الحرب والعنصرية البغيضة المتفشية في هذه الحرب المأساوية.

وفي هذا الصمت الشعبي الكثيف، تلوح مفارقة صادمة: كلما زاد القمع، زاد الاشتياق للحرية، لا بوصفها مطلباً سياسياً مجرداً، بل كشرط أساسي للنجاة من آلة الحرب والانتهاك والخذلان الجماعي. الحرية ليست حلماً سياسياً مؤجلاً فحسب، بل هي أيضاً تساؤل يومي يتجدد: كيف نعيش، وكيف نحمي أنفسنا، وكيف لا نفقد ما تبقى من كرامة؟

رغم المأساة، لا تزال جذوة الأمل مشتعلة. ففي القرى التي تنشأ فيها لجان شعبية للحماية، وفي الأحياء التي تقاسم فيها الناس اللقمة، تتجلى إرادة الحياة. لعل هذه الروح الجماعية، وهذه القوة الكامنة في “عامة الشعب”، هي ما سيصنع سوداناً جديداً، أكثر عدلاً وحرية حرية يفهمها الناس لا كشعار، بل كحق إنساني لا يقبل القسمة. الحرية صرخة مكتومة في القلب خلال الحرب السودانية، صرخة لا تطلب حلاً جاهزاً، بل تطرح الأسئلة المؤلمة: من يملك الحق في قمع شعب بأكمله؟ ومن يملك الشجاعة لإعادة تعريف الحرية من تحت الأنقاض؟

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.