حكومة «تأسيس» بدلات أنيقة.. ومليشيا تقتل المصلين في المساجد..!!
خالد أبو أحمد
الجريمة النكراء التي ارتكبتها مليشيا ما يسمى بحكومة (تأسيس) في دارفور، والمتمثلة في مقتل أكثر من سبعين مصلٍّ أثناء صلاة الصبح داخل مسجد بمدينة الفاشر الجمعة الماضية، لم تكن مجرد حادثة عابرة يمكن أن تمر في سجل الانتهاكات اليومية للحرب، بل كانت نقطة مفصلية أثارت في نفسي غضبًا عميقًا وأسئلة كبرى عن معنى الحكومة، وعن ماهية الدولة، وعن الفرق بين المليشيا التي لا رادع لها والحكومة التي تزعم أنها تحمل مسؤولية شعب ومصير وطن. فلو أن هذه المأساة وقعت قبل إعلان (تأسيس) لكان من الممكن اعتبارها استمرارًا لانفلات مليشيا لا ضابط لها، لكن بعد الإعلان عن تشكيل حكومة لها وزارات تحمل أسماء مثل وزارة العدل ووزارة الداخلية، ولها مجلس وزراء وقادة يتصدرون المنصات، فإن الأمر لا يمكن أن يمر كما كان، لأن هذه المليشيا نصّبت نفسها حكومة، وادعت أن لها أجهزة دولة، ومن ثم فإن المسؤولية مضاعفة، والجريمة ليست فقط جريمة جنود، بل جريمة حكومة ادعت أنها جاءت لتصنع عهدًا جديدًا.
إن حكومة (تأسيس) أرادت أن تُقدم نفسها بواجهة أنيقة؛ قادة ببدلات رسمية وربطات عنق لامعة، وألقاب أكاديمية من قبيل الدكتور والبروفيسور والمهندس، يعتلون المنصات في مؤتمرات صحفية منظمة بعناية، يتحدثون عن الحرية والانعتاق من الدكتاتوريات وإرساء العدالة، في مشهد يُوحي لمن يراه لأول مرة أن السودان، أو على الأقل المناطق التي يحكمها الدعم السريع، مقبلة على عهد مختلف. هذا المشهد المصنوع بعناية يخاطب العين والأذن، فيغري المتلقي بوعود جديدة طال انتظارها. لكن الواقع، كعادته في السودان، كان كفيلًا بتعرية كل تلك الواجهة اللامعة، فما إن ينتهي الخطاب المصقول في القاعات المكيّفة، حتى تصدح أصوات البنادق والمدافع في القرى والمدن، ويمارس الجنود صنوف الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين: قتل ونهب وتشريد وانتهاك للأعراض، هنا يسقط القناع، وتنكشف المفارقة الصارخة بين خطاب يتزين بمفردات الحرية والعدالة، وواقع يغرق الناس في الدماء والدموع.
هذا التناقض انعكاس لحالة من التعرية الفكرية والمعرفية والمنطقية، فمن حيث الفكر، تبدو حكومة (تأسيس) خاوية الوفاض من أي مشروع حقيقي لبناء دولة حديثة. هي ترفع شعارات كبرى وتتحدث عن العدالة والحرية، وتلوح بخطط لإقامة مؤسسات مستقلة، لكن حين نبحث عن الإرادة السياسية والرؤية العملية نجدها غائبة تمامًا. ولعل الأدهى أن هذا الغياب لا يبدو فقط ضعفًا في القدرة على التنفيذ، بل جهلًا عميقًا بكيفية تحويل الشعارات إلى مؤسسات، وكأن الأمر كله لا يعدو أن يكون مشهدًا إعلاميًا منظمًا للاستهلاك الخارجي. فما من أسس ولا لوائح ولا إرادة جادة لوقف الانتهاكات، وما من مساعٍ لترسيخ سيادة القانون.
أما من حيث المعرفة، فإن الممارسات اليومية على الأرض تكشف جهلًا بأبسط تقاليد الحُكم الرشيد والحوكمة، فالدولة الحديثة ليست قاعة مؤتمرات ولا بيانات صحفية، بل هي منظومة متكاملة قاعدتها سيادة القانون وأساسها العدالة. الدولة الحديثة تعني صيانة حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية، وتعني احترام حقوق المرأة والأسرة كجزء لا يتجزأ من مدنية الحكم، وحين تغيب هذه القيم، لا يبقى أمام الناس سوى مواجهة سطوة السلاح. لذلك فإن أي حديث عن مدنية الدولة في ظل هذه الأوضاع يصبح لغوًا فارغًا.
ومن حيث المنطق، فإن الفجوة الهائلة بين القول والفعل تكفي لتعرية كل الادعاءات، فالمنطق البسيط يفرض أن الأفعال تكون امتدادًا للأقوال، لكن في حالة (تأسيس) يحدث العكس تمامًا خطاب عن العدالة يقابله ظلم فج على الأرض. حديث عن الحرية يقابله استبداد بالقوة. شعارات عن الشفافية تقابلها إدارة غامضة للأمور، كيف يمكن لحكومة أن تزعم أنها حارسة للعدالة فيما هي تطلق العنان لجنودها ليهتكوا الكرامات؟ وكيف يمكن أن تتحدث عن الحرية بينما تفرض كلمتها بالبندقية وتدير البلاد بسطوة المليشيا؟ وكيف يمكن أن يصدق الناس حديثًا عن الشفافية بينما تغيب المساءلة وتُرتكب الجرائم دون أن يحاسب أحد؟ هذا الانفصام هو ما يفضح العُري المنطقي، ويكشف أن ما يُقال لا يعدو أن يكون بروباغندا للاستهلاك، بلا عقل ولا رابط.
وفي ظل هذا المشهد، يطرح السؤال نفسه: أين هي الكفاءات التي تم تعيينها في مناصب عليا في حكومة (تأسيس)؟ أين خبراتهم ومعارفهم التي يفترض أن توجه أداء الأجهزة العسكرية والأمنية؟ هل يعقل أن كل هؤلاء الأكاديميين والمهندسين والبروفيسورات لم يدركوا بعد أن العسكر في الدولة الحديثة لهم وضعية محددة لا يمكن تجاوزها؟ فالعسكر في الدولة الحديثة هم حماة للوطن لا حُكام عليه، أدوات لحماية الناس لا وسيلة لإذلالهم، خاضعون للقانون وليسوا فوقه، وأي حكومة حديثة تدرك أن مهمتها الأساسية هي ضبط علاقتها بالقوة العسكرية وفق مبادئ الحوكمة الرشيدة، بحيث تكون القوات النظامية خادمة للعدل والأمن، لا أداة للقمع والترويع.
إن حقوق الإنسان في هذا الإطار ليست ترفًا ولا شعارًا للتسويق، بل هي أساس شرعية الحكم، والعدالة ممارسة يومية تتجسد في محاكم مستقلة، وشرطة تخضع للقانون، وجيش يحمي الحدود ولا يعتدي على المواطنين، واحترام حقوق المرأة والأسرة ليس أمرًا ثانويًا يمكن تجاوزه، بل معيار يقاس به مدى مدنية الحكم وتحضره. ومن دون ذلك، يصبح الحديث عن الدولة المدنية مجرد وهم يروج في الهواء.
إن المواطن السوداني الذي أنهكته الحروب وأثقلته وعود الدكتاتوريات المتكررة، لم يعد بحاجة إلى المزيد من الشعارات الفارغة، بل بات في أمس الحاجة إلى دولة حقيقية تحترم كرامته وتكفل حقوقه. دولة تُبنى على الفكر والمعرفة والمنطق، لا على القوة العارية والاستعراضات الإعلامية، فالدول لا تُقام بالبدلات الأنيقة ولا بالألقاب الأكاديمية، بل تُقام حين يصبح العسكر في مكانهم الطبيعي خاضعين للقانون، وحين تُصان حقوق الإنسان والمرأة والأسرة، وحين تكون العدالة ممارسة حية لا شعارًا أجوف.
ومن هنا فإن حكومة الدعم السريع، إن أرادت أن تتحول فعلًا إلى دولة، عليها أن توقف اعتداءاتها على المدنيين العُزل، ونزيف الدماء في المدن والقرى، وتنشر الأمن في المناطق التي تسيطر عليها، وتوفر الأمن النفسي والمجتمعي والغذائي لمواطنيها، عندها فقط يمكن أن تقدم درسًا للآخرين في أن المليشيا يمكن أن تتحول إلى دولة، وأن العنف يمكن أن ينقلب إلى استقرار، وأن الناس يمكن أن يجدوا في هذه التجربة ما لم يجدوه في تجارب غيرها. أما إن استمر القتل والنهب والتشريد، فإن (تأسيس) لن تكون سوى إعادة إنتاج مشوهة لعهود الاستبداد، بديكور جديد وواجهة أنيقة لكنها فارغة من الداخل.
أخيرًا، بالله عليكم أوقفوا نيرانكم على أهلنا في الفاشر، فقد كفى هذا الحصار الخانق وهذه الأعداد المهولة من الذين ماتوا جوعًا وظلمًا، والذين تشردوا بين الأمصار بلا مأوى ولا سند. لقد فقد أهلنا في الفاشر كل شيء أرواحهم وممتلكاتهم وبيوتهم وأغراضهم، تحت نيران مدافعكم ومسّيراتكم الفتاكة، اتقوا الله في شعبكم، فارفعوا هذا البلاء عن كاهل الأبرياء. يكفي ما أصابهم من جراح، يكفي ما سفك من دماء، ويكفي ما ضاع من أحلام.
﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾.
[email protected]
الجمعة 26 سبتمبر 2025
المصدر: صحيفة التغيير