د. أحمد التيجاني سيد أحمد

مقدمة

منذ الإعلان عن حكومة التأسيس، انطلقت محاولات مكثفة لتشويهها وربطها بمشاريع الانفصال: جنوب السودان، كوسوفو، إريتريا، أو حتى صوماليلاند. هذه المقارنات ليست بريئة، بل تُستخدم كسلاح دعائي في يد الكيزان وفلول الدولة القديمة. الهدف هو القول إن أي بديل عن سلطة الخراب الحالية ما هو إلا مغامرة جديدة ستؤدي إلى تمزيق السودان.

لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا. حكومة التأسيس ليست مشروع انفصال، بل مشروع توحيد السودان على أسس مختلفة جذريًا عن دولة ١٩٥٦. فالدولة التي ورثناها بعد الاستقلال قامت على مركزية قاهرة في الخرطوم، أقصت الأطراف واحتكرت السلطة والثروة بيد نخبة محدودة. هذا النموذج لم ينتج سوى الحروب الأهلية، والتمردات، والانقلابات، وأخيرًا انفصال الجنوب.

من دولة ١٩٥٦ إلى دولة تأسيس جديدة
حكومة التأسيس تسعى إلى تجاوز هذه الحلقة المفرغة. فهي تطرح دستورًا مؤقتًا يقوم على الكونفدراليةالفيدرالية:
أقاليم لها حكام منتخبون ومؤسسات قوية، لا إدارات شكلية.
مشاركة عادلة في السلطة المركزية، بحيث تكون القرارات القومية انعكاسًا لإرادة كل الأقاليم لا العاصمة وحدها.
توزيع عادل للثروة والموارد، مع أولوية لتنمية المناطق التي عانت من التهميش الطويل.

بهذا تفتح حكومة التأسيس الباب لوحدة حقيقية، تستند إلى العدالة والمواطنة، لا إلى القهر والتبعية. وهي تُقدّم لأول مرة عقدًا اجتماعيًا جديدًا يحمي الفرد بوصفه مواطنًا، لا تابعًا لإثنية أو جغرافيا أو حزب.

محاربة التهميش كشرط للوحدة
دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، الشرق، الشمال النوبي… كلها مناطق دفعت ثمن التهميش منذ ١٩٥٦. كان المركز يفرض سلطته بالقوة، بينما يترك الأطراف للفقر والنزوح والحرب. حكومة التأسيس تعلن أن محاربة التهميش ليست بندًا ثانويًا، بل حجر الزاوية لأي مشروع سوداني جديد. فمن دون عدالة للأطراف، لا وحدة ممكنة، ولا استقرار متخيّل.

الدروس من تجارب التحرر الوطني
هنا يكمن الفرق بين حكومة التأسيس وتجارب الانفصال. إذا أردنا تشبيهات صحيحة، فهي ليست مع جنوب السودان أو صوماليلاند، بل مع نماذج التحرر الوطني وبناء الدولة:
جنوب أفريقيا: حيث رفض المؤتمر الوطني الأفريقي شرعية الأبارتهايد، وبنى حكومة ظل بميثاق الحرية حتى انتزع الاعتراف. لم يكن هدفه تمزيق الدولة بل توحيدها على أساس المساواة.
الجزائر: حين أعلنت جبهة التحرير الوطني “الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية” سنة ١٩٥٨، لتصبح الممثل الشرعي للشعب في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
الهند: حين أسس المؤتمر الوطني شرعية شعبية ودستورية سابقة للاستقلال، فكان البديل الجاهز للدولة الاستعمارية.
إثيوبيا بعد منغستو: حيث فرضت الجبهة الثورية دستورًا فيدراليًا وأعادت بناء الدولة من الأطراف إلى المركز، حتى اعترف بها العالم.

هذه كلها لم تكن مشاريع تقسيم، بل مشاريع وحدة وعدالة وتحرر. وحكومة التأسيس تنتمي إلى هذا السياق، لا إلى تجارب الانفصال.

الشرعية من الداخل والاعتراف من الخارج
المجتمع الدولي والإقليمي قد يتردد. سيبحث عن “الحكومة في الخرطوم”، وسيحاول إنعاش جثة كامل إدريس أو البرهان لبعض الوقت. لكن الخارج في النهاية يتعامل مع من يملك الشرعية الحقيقية: من يحمي المدنيين، يفرض الأمن، ويقدّم دستورًا جامعًا. هذه حقائق تُبنى في الداخل أولًا، ثم يأتي الاعتراف الخارجي كنتيجة لا كمصدر.

نحو سودان جديد
حكومة التأسيس ليست نهاية الطريق، بل بدايته. هي لحظة القطع مع دولة ١٩٥٦، ومع العقلية المركزية التي دمّرت السودان. وهي أيضًا فرصة أخيرة للحفاظ على وحدة الأرض السودانية عبر صيغة عادلة تحترم التنوّع وتؤسس لمواطنة متساوية.

الخيار واضح:

 إما إعادة إنتاج دولة الكيزان المنهارة، أو الانطلاق في مشروع تأسيسي جديد. وحكومة التأسيس اختارت الطريق الأصعب، لكنه الطريق الوحيد نحو سودان موحد بالعدل، لا ممزق بالظلم.

د. أحمد التيجاني سيد أحمد
قيادي وعضو مؤسس في تحالف التأسيس

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.