د. أحمد التيجاني سيد أحمد
مقدمة
في بلدٍ أنهكته الحرب والدعاية، يصبح التوثيق فعل مقاومة. ونيالا لم تكن محطة عابرة، بل حكاية مفصلية أعادت ترتيب السردية الوطنية: قسم علني، حشود جماهيرية، وزيارات ميدانية قلبت الموازين. الكيزان وبعض الوسائل الإعلامية حاولوا إنكار الحدث وتسويقه كـ “عرض دعائي”، لكن الصور والفيديوهات وشهادات الأهالي قالت شيئًا آخر: السودان بدأ يتأسس من جديد، من الأطراف لا من المركز.
القسم في نيالا: بالصوت والصورة
القسم جرى في قلب نيالا بحضور المجلس الرئاسي. الفيديوهات المنشورة وثّقت المشهد: زغاريد النساء، هتافات الشباب، والأيادي المرفوعة.شيخ من حي الطويشة قال أمام الكاميرا:“ما رأيناه هنا أكبر من احتفال. إنه ولادة جديدة لدارفور، وللسودان كله.”
جولات دارفور وكردفان: الحاضنة الشعبية
نيالا لم تكن البداية. فقد سبقتها جولات في الأبيض، زالنجي وغيرها:. في الأبيض: خرجت قوافل من القرى بالهتاف والطعام للوفود. في زالنجي: تحوّل السوق المركزي إلى مهرجان سياسي.إحدى الناشطات لخّصت الموقف:“هذه ليست جماهير مُستأجرة، بل حاضنة شعبية. كردفان ودارفور اليوم هما قلب السودان الجديد.”
خارطة النفوذ: مناطق محررة
المعادلة الميدانية واضحة: دارفور وكردفان بكامل مدنها وأريافها خرجت من نفوذ الكيزان. أجزاء واسعة من النيل الأزرق أصبحت خارج قبضتهم. المثلث الليبيالمصريالسوداني، الذي طالما كان منفذ تهريب وتمويل، صار ساحة مكشوفة.ولذلك رفع الأهالي شعارًا ساخرًا ومريرًا:“يا كيزان، الدبة أمامكم بعد الأبيض… لكن من هناك، إلى أين؟”
مصر والعدوان المباشر: من المصانع إلى الحديقة الخلفية
ما جرى في أبريل ٢٠٢٣ لم يكن مجرد معركة جانبية، بل عدوان مباشر على السودان: قصف الطيران المصري ٤٠٠ مصنع خاص في الخرطوم وأم درمان وبحري. تدمير جسرين رئيسيين شلّ حركة التجارة والإمداد. توفير الطيران الحربي المصري للبرهان لقصف المؤسسات المدنية.شهادة من أحد الناجين في أم درمان وثقتها صحيفة التنوير:“لم يكن هناك أي هدف عسكري. الطائرات ضربت السوق والمنازل. عشرات قُتلوا وهم يشترون الخبز أو ينتظرون المواصلات.”لكن هذه الجريمة ليست معزولة، بل استمرار لنهج قديم: السودان كحديقة خلفية لمصر منذ ١٩٥٦.
الكيزان والحرب: من سقوط البشير إلى التدخل المصري
الحرب لم تهبط من السماء. جذورها تعود إلى ما خطط له الكيزان منذ سقوط البشير: صناعة الفوضى. ضرب أي محاولة لبناء مؤسسات مستقلة. إبقاء السودان ساحة معارك داخلية.التدخل المصري جاء ليعزز هذا المسار، ويواصل مخطط الهيمنة الذي بُني منذ نشأة دولة السودان المستقلة في ١٩٥٦: مقاومة أي حكم ديمقراطي سلمي في السودان، لأنه يشكل تهديدًا مباشرًا للنظام العسكريالدكتاتوري في مصر منذ ١٩٥٢. عون مباشر للحركة الإسلامية. توفير غطاء سياسي وعسكري لإعادة تدوير مشروع الإسلاميين.إن ما فعلته مصر من تدمير المصانع والجسور، ومنح الطيران الحربي للبرهان، لم يكن دعمًا لدولة جارة، بل تعزيزًا مباشرًا لمشروع الإسلاميين الذين حطموا السودان منذ ١٩٨٩.
مصر وسد النهضة: خوف قديم في ثوب جديد
الموقف المصري من سد النهضة الإثيوبي لم يكن حرصًا على الأمن المائي فقط، بل خوفًا من أي وجود إفريقي مستقل يغيّر معادلة الهيمنة. في إثيوبيا: سد النهضة رمز سيادة. في السودان: التنمية (الزراعية و المعدنية و الاجتماعية) المستقلة تُعامل كتهديد للأمن القومي المصري. في كينيا، يوغندا، وليبيا: تتكرر الضغوط نفسها.لو أرادت مصر مستقبلًا مستقرًا، فعلى عقلائها أن يعترفوا: التعامل مع إفريقيا لا يكون بالهيمنة والتخويف، بل بالشراكة الندية.
جيش التأسيس: قوة تصعد رغم العواصف
رغم القصف المصري والدعم الخارجي (التركيالإيرانيالقطري) للجيش، أثبت جيش التأسيس أنه أكثر تنظيمًا وانضباطًا. تحرير صارقيل البارحة لم يكن مجرد عملية عسكرية صغيرة، بل إشارة على قدرة التوسع.أحد المقاتلين قال:“صارقيل ليست نهاية، بل بداية. كل قرية تُحرر تعني أن السودان يقوم من جديد.”
خاتمة صارخة: إلى متى؟
حكاية نيالا لم تعد قصة محلية، بل عنوانًا لسؤال أكبر: متى يتحرر السودان من تبعية مصر الاقتصادية والسياسية؟ متى يستعيد السودانيون اعتزازهم بأنفسهم؟ وإذا كانت دارفور وكردفان والنيل الأزرق قد خرجت من قبضة الكيزان، فمتى يخرج الوعي السوداني من أسر التبعية؟“يا كيزان، ويا من تبعوكم، الأبيض أمامكم، الدبة أمامكم… لكن من هناك، إلى أين؟”
كسرة
صارقيل: قرية صغيرة.. رمز كبير
قد يبدو اسمها صغيرًا على الخريطة، لكن صارقيل الواقعة شمال شرق نيالا، بمحلية شرق جبل مرة في جنوب دارفور، تحمل اليوم دلالة أكبر من مساحتها. فهي نقطة استراتيجية تربط مدينة نيالا بالقرى الشرقية والجبلية، ما جعلها على مدى شهور تحت سيطرة مليشيات الكيزان. أهالي صارقيل عانوا من انتهاكات واسعة: نهب الماشية، فرض إتاوات على المزارعين، واعتقالات تعسفية للشباب. لذلك، كان تحريرها على يد جيش التأسيس حدثًا ذا صدى شعبي واسع، لأنه: أعاد فتح الطريق بين نيالا والقرى الشرقية. أمّن المزارعين في موسم الحصاد. كسر شوكة الكيزان في واحدة من مناطق نفوذهم التقليدية.هكذا تحولت صارقيل من قرية مهمشة إلى رمز للقدرة على التقدم والانتصار، ورسالة أن جيش التأسيس لا يكتفي بالشعارات، بل يحقق خطوات ملموسة على الأرض.
المصدر: صحيفة الراكوبة