اخبار السودان

حكاوي النزوح.. نساء واجهن الاستغلال ولفظ ذوي القربى

تقرير : سمية المطبعجي

جلست ساهمة تحدق في لاشيء (لا أصدق ما مررنا به.. ولا في الكوابيس، من أين خرجت كل تلك القسوة ، الأقرباء ، الغرباء ، المسلحين جيش على دعم سريع .. جميعهم .. فقدت الثقة في كل شيئ سوى رب العالمين ..). همهمت هادية بعد رحلة نزوح للمرة الثالثة.

غادرت السيدة ذات الست والثلاثين عاماً مع طفليها الخرطوم بعد اشتداد القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع وانسحاب الأولى وسيطرة الأخيرة على منطقة جبرة متجهة جنوبا برفقة أخيها وأختها.

قالت : “قررنا سريعا الذهاب إلى عمي بإحدى مدن ولاية الجزيرة ريثما يهدأ الحال .. كان كل شيء بيننا وأسرة عمنا سمن على عسل حتى آخر لقاء بمنزلنا الذي اعتاد واسرته المكوث فيه عند قدومهم الخرطوم، حتى إبان مهاتفتهم لنا بداية الحرب للإطمئنان .. أسبوع فقط وبدأ الحال والمزاج في التبدل من أهل الدار، كأننا لم نعرفهم من قبل .. اصبح أخي يقضي جل يومه خارج المنزل ويأتي ليلا لينام، كان التعامل نوعا ما مع شقيقتي أفضل، لم يعد أحد يحتمل صوت أطفالي فقررت الذهاب لمأوى النزوح مع طفلي”.

استقبلت مدينة ود مدني عشرات الآلاف من النازحين من حرب الخرطوم بعد الخامس عشر من ابريل 2023 ، كان العبئ الأكبر لتقديم الخدمات في مراكز النزوح في المدارس وداخليات الجامعات ، بالجهد الشعبي من قبل المتطوعين والمتطوعات.

فيما استقبلت مئات المنازل عشرات الأسر من الأقارب والمعارف مع ارتفاع حاد في أسعار ايجار المنازل الى مليارات شهرياً. وظروف عانت فيها مراكز الإيواء من نقص حاد في المياه والرعاية الصحية وانقطاع الكهرباء. وسط تلك الظروف كابدت هادية وكان اقصى أهدافها تلك الأيام إشباع طفليها والإرتواء بجرعات ماء والدعاء بحمايتهم من الأمراض في ظل النقص الحاد في الدواء وصعوبة الوصول الى العلاج رغم المجهودات الضخمة من المتطوعين الشباب وبعض المنظمات. ولكن .. باغتتهم قوات الدعم السريع بدخول المدينة فكان عليهم النزوح للمرة الثانية.

قالت : ” .. لا أعلم مصير اخوتي .. هجم الدعم السريع على كل شيئ ، المنازل، الأسواق ..مراكز الإيواء.. فررت أجر طفلي مع الفارين جنوباً .. مشينا ومشينا لعشرات الكيلومترات، سكان المناطق التي كنا نمر بها على بساطتهم حاولوا اغاثتنا بالماء والطعام ولكن كانت الأعداد كبيرة .. كنا نسير في مجموعات بالمئات من مختلف الفئات العمرية… عجز البعض عن السير وارتموا ارضا .. وصل الإعياء مبلغاً دون إحتمال الأطفال فقصدنا أحد البيوت على الطريق لشئ من الراحة والطعام .. ”.

ثم صمتت هادية لبرهة قبل أن تعاود الحكاية بصوت متهدج : ” .. كان بالدار رجل في متوسط العمر صدمني بطلبه تقديم الطعام والراحة مقابل النوم بجانبه .. صمت وانا انظر التعب والجوع في وجوه طفلي .. اجبته بالإيجاب .. آلمني أن يكون بشراً بتلك الوضاعة في ظروف كتلك .. لم استطع ابتلاع جرعة ماء .. بعد أن شبع الطفلين استعدت قواي وهددته بالصراخ وفضحه ثم خرجنا مواصلين السير .. ”.

ووفقا للمنظمة الدولية للهجرة فر نحو 250 ألفا من مدينة ود مدني والقرى المحيطة بها حتى نوفمبر الماضي بعد هجوم قوات الدعم الدعم السريع في ديسمبر 2023 . ووقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وعمليات اغتصاب ونهب واسعة للمنازل والأسواق والسيارات وحرق المزارع والاستيلاء على المحاصيل.

وفي الأسبوع الأول من يناير بدأ الجيش السوداني في شن حملة عسكرية لاستعادة ولاية الجزيرة بدءاً ببعض المدن شمالاً وصولاً إلى عاصمة الولاية ودمدني التي تم إعلان تحريرها في في الرابع عشر من يناير 2025 ، ورغم المظاهر الاحتفالية التي سادت عقب سيطرة الجيش وانسحاب قوات الدعم السريع في مناطق مختلفة داخل وخارج البلاد ، لكن المنطقة شهدت أيضاً ما يشبه الحملة الإنتقامية والإعدامات الميدانية لمن سمو ب (المتعاونين) مع الدعم السريع.

هادية واطفالها انتهى بهم النزوح إلى كسلا من سنار للمرة الثالثة بأحد مراكز الإيواء في ظروف شبه إنعدام الرعاية الصحية والخدمية بالغة السؤ وانتشار الأمراض ونقص الغذاء . تتكرر مظاهر المعاناة والحال من سيئ إلى أسوأ، ففي مركز الإيواء الثاني لهادية وطفليها في سنار ، بعد رحلة دامت لأكثر من يومين مشياً على الأقدام تقول هادية : ” .. وصلنا سنار وحالي والطفلين والكثير من مئات النازحين يغني عن السؤال .. قضينا يومان مستلقيين تحت الأشجار لا نقوى على الحراك .. لا حمامات، لا شيئ .. كما تلك المبادرات الشبابية في مدني تلقفنا شبان وشابات حاولوا تقديم ما استطاعوا مع أهل المنطقة تقديم الطعام والماء .. ثم ادخلنا مركزا للإيواء بعد يومين .. كنا نتناول وجبة واحدة في اليوم ، لم اشبع قط منذ بدء الحرب .. أأكل القليل ليشبع اولادي في وجبة أعلم أنهم لن يتناولوا غيرها حتى اليوم الثاني … ”.

وتضيف هادية : ” .. اهيم مع نفسي وذاكرتي غير مستوعبة ما يحدث لنا ، بداية ترى ما الدافع لحرب مجنونة كهذه لتقع على رأس الضعفاء منا ؟ “، مروراً بصدمة موقف اقرباءها منهم وهم ” .. طالما مكثوا لاشهر بيننا في بيوتنا وناموا على اسرتنا، شاركونا طعامنا .. ” . وتواصل ” .. اما ما واجهت من ابتزاز جنسي فذلك شأناً آخر .. كيف لشخص أن تكون له رغبات في ظروف كهذه حتى وان كانت حيوانية .. استمعت للكثير من قصص الجشع واغتصاب نساء وفتيات وسط النازحات .. ماذا حل بنا و باخلاقنا ؟ .. ”.

ما طرحته هادية ومرت به يرد في أذهان الكثيرين ممن صدموا وعانوا من ظلم أو تغير ذوي القربى ممن استجاروا بهم عقب الحرب المفاجئة، وما تداعى من ظواهر الانتهاكات والاستغلال الجنسي، والذي ربما يفسره مراقبين لخضوعه لعوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية، فالولايات بوجه عام تعاني من شح الموارد أصلاً ولم تعتاد هجرة مواطني العاصمة نحوها، حيث كانت الخرطوم دوما تمثل المركز الاقتصادي ذات المجتمع المنفتح بحكم التنوع الواسع وتأتي هجرة الريف الى المدينة كأمر بديهي في ظل إمكانية توفر العمل أو سبل العيش، في مقابل الولايات التقليدية بمواردها المحدودة وأوضاع الأسر المنهكة اقتصاديا، مما شكل عبئا عليها. فالعديد من النازحين، حتى أولئك الذين قوبلوا بالترحيب ولم يتعرضوا لمضايقات أو الإحساس بعدم الرغبة في تواجدهم ، أشاروا إلى أنهم كانوا محرجين من وجودهم في ظل الأحوال الاقتصادية المتعسرة للاسر المضيفة ، في الوقت الذي لم يكونوا يملكون شيئاً للمساهمة في المعيشة.

كذلك تفكك النسيج الاجتماعي الذي ضرب المجتمع السوداني لأكثر من ثلاثين عاما، تراجعت فيها القيم الاجتماعية وروح التكاتف. ولا ينفي ذلك وجود صفحات ناصعة في تجربة النزوح، باستضافت الكثير من الاسر لنازحين لا تربطهم بهم علاقة، وتكفل الخيرين بالاطعام والمساعدة ، ولكن يأتي التناول للظاهرة غير المعتادة، حتى راجت عبارة (الدانة ولا الإهانة) . يضاف الى ذلك اختلاف الثقافات، خاصة السلوكية والغذائية، بين سكان المدينة والريف، خاصة لدى فئات الشباب والأطفال، وتعمق الفجوة بالانفتاح على عوالم أخرى بفضل التقدم التقني وشبكة الانترنت.

وفي مقابل المجتمعات المحافظة في الريف والولايات، قد تخلق جواً من عدم القبول والتوتر بين الأسر المستضيفة والمضافة . فقد حفلت وسائل التواصل الاجتماعي في فترة النزوح الأولى التي شهدت بداية صدمة الرفض، بقصص معاناة عدم التأقلم ، قالت إحداهن : ” .. ظللت مرتدية (التوب) الذي لم اعتاد ارتدائه، طوال 24 ساعة حسب التقاليد.. بناتي في حالة انتقاد دائم على سلوكهن ..”.

ولا يستبعد محللين تأثير الجانب النفسي، فربما ينظر البعض الى الخرطوم بأنها المدينة التي دوما ما استأثرت بالموارد والفرص وهناء العيش، فيما كانت الولايات تعاني، وعلى الخرطوميون دفع الثمن الآن، ليتمظهر ذلك في الجشع وقلة التعاطف التي واجهها الكثيرين من اشكال الاستغلال في الأسعار الجنونية لتأجير المنازل وفئات الترحيل.

أما جانب الاستغلال الجنسي في حالات النزاعات، مثل التي تعرضت له هادية فقد ذهب بعض المختصين، الى ( أن الإحساس بالإنسانية يتراجع لدى بعض الأفراد في حالات الفوضى والنزاعات، مما يجعلهم أكثر عرضة لارتكاب أفعال وحشية دون أي وازع أخلاقي ) .

صحيفة مداميك

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *