حقائق عن الصراع الدموي وتداخل الأجندات الدولية

خلفت الحرب الأهلية الوحشية في السودان، والتي دخلت الآن عامها الثالث، عشرات الآلاف من القتلى، وملايين النازحين، حتى صارت “أكبر أزمة إنسانية في العالم”، وسط تجاهل عالمي.
والمشهد في السودان اليوم يضم عاصمة طالها الدمار، وبلداً يفتقر لسبيل واضح يخرج به من مسار إراقة الدماء والعنف، ولا تزال الحصيلة الدقيقة
لقتلى الصراع غير واضحة. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، تجاوز عدد قتلى الحرب 20 ألف شخص، في حين تشير تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية إلى 150 ألف قتيل.
وتشارك في حرب السودان أطراف متعددة. فمن هي الأطراف المتحاربة وما هي الأسباب؟ وكيف يبدو الوضع الإنساني وكيف تبدو فرص إنهاء الحرب؟.
من يقاتل ضد من؟
يعود تاريخ هذا الصراع إلى نهاية حكم الرئيس السابقعمر البشير في عام 2019. والذي اعتمد في سلطته على الجيش الحكومي: القوات المسلحة السودانية، التي تخضع اليوم لقيادة الجنرال وحاكم السودان الفعلي عبد الفتاح البرهان. ولكنه اعتمد في الوقت نفسه أيضًا على ميليشيات عديدة، من بينها الميليشيا المعروفة باسم قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي“.
وبعد إسقاط عمر البشير، اندمج الجيش وقوات الدعم السريع في مجلس انتقالي بقيادة مدنية. ولكنهما قاما في تشرين الأول/أكتوبر 2021 بانقلاب مشترك، وأطاحا الحكومة المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، وأصبح حميدتي نائبًا للبرهان. ولكن بعد ذلك اختلف القائدان حول هيكلة وتسلسل الجيش المشترك.
رفض حميدتي دمج ميليشياته في الجيش الوطني. وقد أدى ذلك في نيسان/أبريل 2023 إلى نشوب صراع مفتوح على السلطة بين الطرفين، أفضى إلى حرب اجتاحت جميع أنحاء السودان.

من هي الأطراف الدولية المشاركة في هذا الصراع؟
حميدتي والبرهان لا يتحاربان بمفردهما. حيث يتم دعمهما من قبل شركاء دوليين لديهم مصالح اقتصادية أو استراتيجية في السودان. ومثلًا لقد أقام في خريف العام الماضي القائد العسكري البرهان اتصالات مع إيران، التي حصل منها على معدات عسكرية منها مسيّرات قتالية وضعت خصمه تحت ضغط كبير. وكذلك تقف إلى جانبه مصر والسعودية.
أما “الحكومة المصرية فهي لا تتعاون مع قوات الدعم السريع لأنَّها غير حكومية”، بحسب ما تقول الباحثة السياسية وخبيرة السودان هاجر علي من المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية (GIGA) في هامبورغ. وفي المقابل يرى الكثير من الخبراء الدوليين أنَّ قائد قوات الدعم السريع حميدتي يتلقى الدعم من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تنفي ذلك بطبيعة الحال.
وعلى الأرجح فإن دولة الإمارات غير مهتمة فقط بمناجم الذهب في السودان، والتي يقع معظمها في مناطق يسيطر عليها حميدتي. فالإمارات تعتمد أيضًا على حميدتي في الزراعة، وذلك لأنَّ السودان كان حتى بدء الحرب مصدرًا مهمًا للغذاء بالنسبة للإمارات. والإمارات وميليشيا قوات الدعم السريع لديهما علاقات عسكرية أيضًا منذ أن أرسل حميدتي عددًا كبيرًا من أفراد ميليشياته إلى الحرب بقيادة السعودية والإمارات ضد ميليشيا الحوثي في اليمن.
من جانبها اتخذت روسيا موقفًا جديدًا. فبعد أن كانت موسكو تدعم حميدتي في البداية، وأيضًا بالنظر إلى احتياطيات السودان من الذهب، صارت تتوجّه منذ عدة أشهر وبشكل متزايد نحو رئيس أركان الجيش البرهان. وذلك على خلفية مركز لوجستي من المقرر توسعته على المدى الطويل إلى قاعدة بحرية في مدينة بورتسودان الساحلية الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة السودانية. وهذه القاعدة ستمثّل لروسيا نقطة انطلاق باتجاه أفريقيا، وكذلك ستجعلها حاضرة في البحر الأحمر، الذي يعد من أهم طرق الشحن في العالم.
كيف يبدو الوضع الإنساني؟
تبدو الأوضاع الإنسانية في السودان قاتمة، بعد مرور عامين على اندلاع الحرب. وأفاد شون هيوز، المسؤول عن السودان لدى برنامج الأغذية العالمي، بنزوح قرابة 13 مليون شخص، وبأن 25 مليوناً آخرين يواجهون خطر المجاعة.
وأوضح هيوز: “هذه أكبر أزمة إنسانية في العالم من حيث النزوح… يعاني قرابة خمسة ملايين طفل وأم من سوء التغذية الحاد”. وأكد أن “حجم ما يحدث في السودان يهدد بتقزيم كثير مما شهدناه خلال العقود الأخيرة.”
وبسبب الصراع على السلطة بين حميدتي والبرهان سقط السودان في أتون أكبر أزمة إنسانية في العالم: فقد هرب بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 8 ملايين و8 مائة ألف مواطنة ومواطن سوداني من ديارهم إلى مناطق أخرى في السودان، وقد لجأ أكثر من ثلاثة ملايين شخص إلى البلدان المجاورة. كما أنَّ 70 بالمائة من النازحين أطفال وأجزاء كبيرة من السكان مهددة بالمجاعة. وهذا يعود أيضًا إلى حقيقة أنَّ ميليشيات قوات الدعم السريع خاصةً تحرق الأراضي الزراعية بشكل ممنهج من أجل إخضاع الأهالي المقيمين هناك.
وبسبب المعارك دُمِّرت قطاعات واسعة من البنية التحتية الحيوية إلى حد كبير، فيما يعاني الأهالي من عنف ذوي السلطة وتعسفهم، إذ “يتفشى في السودان وباء العنف الجنسي. والأطفال يُقتلون ويُصابون. معاناة الناس مروعة”، بحسب ما ذكر توم فليتشر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ في تصريحات صدرت في شهر شباط/فبراير من هذا العام.


فظائع تتكشف مع استعادة الخرطوم
ومنذ استعادة الجيش السوداني السيطرة على العاصمة الخرطوم في مارس/آذار الماضي، ظهرت صور مروعة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر ضحايا التعذيب، والأسرى الذين تحتجزهم قوات الدعم السريع، وقد أصابهم الهزال، وصار الكثير منهم مجرد هياكل عظمية. وبلغ الضعف والوهن بالكثير من هؤلاء ما أدى إلى وفاتهم عقب فترة وجيزة من تحريرهم.
واليوم، تتناقض صور المقابر الجماعية وضحايا العنف الذين تركوا في شقق خاوية مع الإشارات الأولية للحياة الجديدة في الخرطوم. وصارت منطقة وسط الخرطوم وكأنها مدينة أشباح، حيث المباني المحترقة والمركبات التي اخترقتها طلقات الرصاص. وفي أجزاء أخرى من العاصمة، بدأت طلائع السكان العودة إلى المدينة.
وتتهم منظمات دولية مختلفة كلا الطرفين بارتكاب جرائم حرب، لم يسلم منها حتى الأطفال الصغار والذين تعرض بعضهم للعنف الجنسي، كما تشكو منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف). شملت الجرائم أيضاً القصف العشوائي الذي نفذته القوات الحكومية، والفظائع واسعة النطاق التي ارتكبتها ميليشيا قوات الدعم السريع التابعة لدقلو، كعمليات الإعدام الجماعية، والتطهير العرقي.
هل يمكن توقع نهاية الصراع؟
لقد تم القيام بعدة محاولات لإنهاء الصراع، ولكن جميعها باءت بالفشل. وهذا يعود لأسباب ليس آخرها أنَّ المتنافسين حميدتي والبرهان ما يزالان يرفضا التصالح. “كل طرف يأمل في جعل نفسه ‘قوة شرعية‘ في السودان”، كما قالت في آذار/مارس 2025 لدويتشه فيله لينا بدري، وهي خبيرة سياسية من مركز تشاتام هاوس البريطاني. وأضافت أنَّ القوات المسلحة السودانية تشترط من أجل مفاوضات السلام انسحاب قوات الدعم السريع ونزع سلاحها.
ومن جانبها، تأمل قوات الدعم السريع من خلال تشكيل حكومة الوصول إلى واردات الأسلحة الرسمية، بحسب تعبير لينا بدري. والطرفان لم يبديا أي استعداد لإنهاء الحرب. واستطاعت مؤخرًا القوات المسلحة السودانية تحقيق مكاسب إقليمية كبيرة في العاصمة الخرطوم، ولكن يبدو من غير المحتمل حاليًا أن يستسلم خصومها.
ولكن حتى وإن اتفق الطرفان على وقف إطلاق النار فإنَّ تحقيقه لن يكون سهلًا. وذلك لأنَّ قوات الدعم السريع وكذلك القوات المسلحة السودانية تحالفت مع العديد من الجماعات والميليشيات المحلية، التي تسعى بدورها إلى تحقيق مصالحها الخاصة في الحرب. وطالما أنَّ العنف يخدم أهدافها الخاصة فمن غير المرجح أن يكون لديها اهتمام كبير بوقف إطلاق النار.


إلى أين يمكن أن يؤدي الصراع؟
لقد أصبح السودان دولة ضعيفة للغاية. كما أنَّ محاولة روسيا إنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان تشير إلى أنَّ السودان بات يتحول وبشكل متزايد إلى لعبة في يد مصالح أجنبية لا يمكنه مواجهتها. ومن هذا الجانب يذكِّر السودان بالوضع في سوريا خلال الحرب هناك. زد على ذلك أنَّ السودان قد ينقسم إلى عدة أجزاء.
وبدأت بذلك قوات الدعم السريع في نهاية شباط/فبراير: فقد وقّعت ميثاق تشكيل “حكومة سلام ووحدة” في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وهذه الخطوة تثير المخاوف من احتمال تفكيك السودان وانقسامه بشكل دائم. وقد حذَّر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أنَّ هذا الإعلان يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الصراع المتواصل في السودان وإلى تفتيته وأن يزيد من سوء الوضع الإنساني المأساوي هناك.
المصدر: صحيفة الراكوبة