اخبار السودان

حرب جنرالات السودان … (1) الكارثة المنسية

 

حرب جنرالات السودان … (1)

الكارثة المنسية

مهدي رابح

في شهادة موثقة لاحد النازحين من جحيم الخرطوم يرد علي تساؤل أحدهم غير البرئ:

“هل نزحت هربا من الخرطوم؟ …

أكيد لا … كم مرة قرأت أن الموت ملاقينا ولو كنّا في بروج مشيّدة.
نزحت لأن من نزح لقريتنا من مدينة بحري القديمة روي وسط دموعه انه ذات غفلة من القصف والقصف المضاد فتح باب منزله فوجد كلبين ضالين أحدهما يحمل راساً بشري والأخر ساق لا يزال يغطيها بعض بنطلون.”
……………

بعيدا عن اعين الاعلام الفاحصة وانتباه الراي العام العالمي , المشغول بكوارث أخري أكثر قرباً للمراكز العصبية لقواه الكبرى, وابرزها الصراع مع النظام الروسي على الأرض الأوكرانية, والمأخوذ بمناورات فلاديمير بوتين المميتة وهو يداعب بأصابعه الذر الأحمر لمنظومة الأسلحة النووية, او برقصة شفير الهاوية التي تجري في محيط جزيرة تايوان بين الصين والولايات المتحدة والتي يبدو انها صديً للتوتر في حرب أوكرانيا حيث تدعم كل من القوتين الكبريين الصين وامريكا احد طرفيها, وهما حدثين يمثل كل واحد منهما جانباً من تجليات عمليات الاستقطاب وإعادة التموضع السياسيالاقتصادي داخل نظام عالمي يمر بمرحلة من التغيرات وإعادة التشكّل, في هذا السياق المُقلق تجري احد المآسي البشرية الكبرى دون ان تجد ما يستحقه حجمها او مدي تأثيرها من اهتمام, فبعد اندلاعها بحوالي أسبوع وحتي صبيحة اليوم , أي مع دخولها الشهر الثالث منذ الخامس عشر من ابريل الماضي ظلت تتواري اخبار حرب السودان شيئا فشيئا حتي كادت ان تختفي من مركز مسرح الاحداث العالمي عدا عن بضعة اخبار متناثرة هنا وهناك حول ما رشح عن مجريات المعركة او حول ما يجري في مدينة جدة من مداولات في محاولة لفرض هدنة إنسانية ووقف مؤقت لإطلاق النار من قبل الوساطة الأمريكية السعودية، طبعاً بإستثناء حفنة صغيرة من الصحف والاذاعات والقنوات الاخبارية العربية والافريقية التي ظلت تتابع هذه الحرب عن كثب وعلي مدار الساعة.

من أخطر ما يميز هذه الحرب التي تدور معاركها الرئيسة في شوارع العاصمة السودانية الخرطوم وبعض المدن الإقليمية الأخرى خاصة في كردفان ودارفور هو غياب مصادر المعلومات واليات الرقابة الموثوقة، ذلك مقترناً بوجود حملات ضخمة من التضليل الإعلامي والمعلوماتي ظلت ومنذ سقوط النظام السابق تضخ في المشهد السوداني الأكاذيب والحقائق الموازية وأنصافها, والصادرة عن فاعلين متعددين يحمل كل منهم مشروع شمولي مختلف عن الاخر لكن جلّهم وبالأساس يشتركون في استهدافهم للقوي المدنية الساعية للتغيير وللتحول المدني الديموقراطي, وهي حملات اتخذت الآن اشكالاً اشبه بالإعلام الحربي , لكن وبالرغم عن ذلك فقد بدأت تتراكم مئات الشهادات الفردية المتناثرة والمروعة, كالشهادة الحزينة التي افتتحنا بها هذا المقال, لترسم ملامح فسيفساء احد اقبح واضخم الصراعات المسلحة التي شهدها السودان المعاصر بل ربما افريقيا وأكثرها توحشا خلال العقود الماضية.

بينما تتحذ قوات الدعم السريع السكان دروعاً بشرية واحيائهم والمرافق العامة استحكامات حربية, يتحصّن الجيش الرسمي وجنرالاته خلف الخنادق او في مخابئ عميقة تحت الارض وبينما تقصف مدفعيتهم الثقيلة وطائراتهم الحربية بصورة غير دقيقة الاحياء السكنية والميادين والشوارع يزيد القصف المضاد للدعم السريع الوضع سوءً, وبين هذا وذاك يسقط الاف الضحايا من موتي وجرحي المدنيين ويتعرضون للاغتصاب والترويع وتتعرض ممتلكاتهم للنهب والتدمير ومنازلهم للاحتلال ويسقط اخرون عطشا وجوعا او جراء حرمانهم من الوصول الي مراكز صحية توفر لهم غسيلا للكلي او جرعات من العلاج الكيميائي للسرطان او خدمات العمليات الجراحية او انواع العناية المكثّفة الاخري.

يحدث ذلك وسط تصاعد الأصوات المنادية بتسليح المدنيين, وانباء عن تغييرات تجريها الأجهزة الأمنية التي يطغي علي عضويتها عناصر النظام السابق داخل بعض لجان المقاومة للسيطرة عليها وتغيير طبيعتها بل تسليح بعضها أيضا, وجهد يبذل وسط المكونات القبلية عبر بعض الزعامات الاهلية, وعمليات شراء للولاءات تجري وسط الإعلاميين أيضا وصانعي المحتوي من المؤثرين علي الراي العام, وشركات علاقات عامة تعمل بكل همّة وبميزانيات كبيرة لاعادة تسويق مؤسسات وشخصيات متورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والايحاء بقدرتهم تقديم حلول ولو بدا ذلك غير قابل للتصديق.

حرب بدأت تأخذ أبعادا اخري في بعض المدن في دارفور, حيث تحولت الي صراع اثني مدعوم من طرفي الحرب, مورست خلاله تجاوزات قد ترقي الي مستوي الإبادة الجماعية وسقط جرائها حتي اليوم ما يقدر بالف ومئة قتيل في مدينة الجنينة لوحدها وتحولت هي ومدن اخري مثل زالنجي الي مدن اشباح معزولة عن العالم، وهي ظاهرة مرشحة في حال تطاول امد الحرب للانتشار في مناطق ساخنة اخري من السودان ظلت تعاني من ثنائية ضعف التنمية والتسليح المكثف علي طول التباينات الاثنوقبلية والتي حاولت كل من قيادة الجيش وعناصر نظام الجنرال البشير وقيادة الدعم السريع استغلالها لتحقيق اهدافها السياسية والاقتصادية الخاصة, وهي مناطق يغطي نطاقها الجغرافي غالب الأراضي السودانية في أقاليم دارفور, كردفان والنيل الأزرق والاقاليم الشرقية .

هي أيضا ازمة إنسانية خطيرة آخذة في التوسع لأبعاد إقليمية ودولية, ابطالها مئات الاف السودانيات والسودانيين الذين انقلبت حياتهم بغتة راساً علي عقب ففقدوا مساكنهم وما تركوه خلفهم من امال واحلام ولحظات دفء عاشوها في كنفها ونزحوا خارج الخرطوم والجنينة والأبيض والفاشر ونيالا وزالنجي وكتم وغيرها, إمّا نخو معسكرات النازحين او الي مدن اخري اكثر هدوءً او خارج البلاد مودّعين احبّاء فقدوهم واحيانا لم يجدوا وسيلة حتي لدفنهم بصورة لائقة, ووطن جريح ومُدنا كانت ذاخرة بالحياة تعج طرقاتها بالذكريات المهدرة والجثث المتعفنة والدمار ورائحة البارود.

من تسبب في هذه الكارثة ومن يتحمل المسؤولية أيضا بجانب عصبة الجنرالات الفاسدين والمجرمين؟
كيف لعب الاسلامويون من عناصر النظام السابق دورا محوريا فيها ومازالوا؟
ما هو دور القوي السياسية والاجتماعية المدنية الأخرى؟ الحركات المسلحة؟
هل كان تفاديها ممكناً ام ان الواقع ومعطياته الموضوعية وطبيعة تفاعلها كانت ستؤدي الي الانفجار لا محالة؟
ماهي جذور الازمة التاريخية ومسبباتها البنيوية ؟
ما هي الأدوار التي لعبتها بعض دوائر التأثير العالمي والإقليمي ؟
ما هي مترتباتها المستقبلية؟
هل هنالك افق لحلول مستدامة ؟
هل هنالك امل في ان ينهض السودان من كبوته ليستعيد مسار الإصلاح والتحول المدني الديموقراطي؟
هل هذه اخر حرب ام اننا مقبلون علي سيناريو أسوأ يكثير؟.

عديد من الأسئلة غير المجابة تتزاحم في اذهان كل السودانيات والسودانيين وبالأخص من خاضوا منهم ومنهن تجربة ثورة ديسمبر 20018م بكل وجدانهم ونزلوا الي الشوارع متحدّين آلة القتل والقمع التي استخدمها الديكتاتور البشير، هاتفين باقانيمها الثلاث حرية سلام وعدالة , كل من تشاركوا معا وعد التغيير وداعب احلامهم يوما إمكانية تحقيقه وإخراج هذه البلاد من دورة الفشل الخبيثة المزمنة التي ظلت رهينة لها منذ استقلالها عام 1956م, عديد من الأسئلة تتزاحم أيضا في ذهن المراقبين من المجتمع الاقليمي الدولي التي تتغطي في اوساطه تصورات شائهه تسبب فيها ضعف مصادر المعلومات وتأثرها بحملات التضليل او بالتحيزات المسبقة لبعض الفاعلين السودانيين, لهذا وذاك سأحاول جهدي عبر سلسة المقالات هذه المساهمة المتواضعة في الإجابة علي بعض منها قدر الإمكان.
……………

“لقد انتقل جميع مرضي الفشل الكلوي في الجنينة الي بارئهم نتيجة توقف خدمات غسيل الكلي في المدينة.”

خبر موثق من مدينة الجنينة قبل أسبوعين تقريبا.

يتبع..

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *