حرب جنرالات السودان.. آفة الاستحقاق الذاتي «5»
حرب جنرالات السودان… «5»
آفة الاستحقاق الذاتي
مهدي رابح
“إن القوات المسلحة هي الوصية على أمن السودان ووحدته رغم أنف الجميع.”
قائد الجيش, الجنرال البرهان يوم 22 سبتمبر 2021م مخاطبا حفل تخريج جنود القوات الخاصة بمدينة أمدرمان بمعية نائبه محمد حمدان دقلو الذي وبدوره وجه رسائل مشابهة أيضا عقب ما أدعي كليهما من اجهاض لمحاولة انقلاب فاشلة يقودها جنرال اخر يدعي بكراوي.
……………..
“فكان لزامًا علينا في القوات المسلحة والدعم السريع والأجهزة الأمنية الأخرى أن نستشعر الخطر ونتخذ الخطوات التي تحفظ مسار ثورة ديسمبر المجيدة حتى بلوغ أهدافه النهائية في الوصول لدولة مدنية كاملة عبر انتخابات حرة ونزيهة.”
قائد الجيش, الجنرال البرهان من نص البيان الذي القاه يوم 25 أكتوبر 2021م عقب قيامه بانقلاب عسكري علي السلطة والدستور الانتقالي واعتقاله لأعضاء الحكومة من المدنيين.
……………..
” إن حجم المؤامرة يتطلب من الجميع اليقظة والاستعداد للتصدي للمهددات الوجودية لدولتنا. لذلك نطلب من جميع شباب بلادي وكل من يستطيع.. ألا يتردد أو يتأخر في أن يقوم بهذا الدور الوطني في مكان سكنه أو بالانضمام للوحدات العسكرية لنيل شرف الدفاع عن بقاء الدولة السودانية”.
قائد الجيش, الجنرال البرهان يوم 28 يونيو 2023م بمناسبة عيد الأضحى المبارك ومرور 74 يوما علي اندلاع حرب 15 ابريل.
…………………………………………………………………………
النصوص المتناقضة أعلاه, والمقتطفة من تصريحات وبيانات مختلفة للجنرال البرهان والممتدة لمدي ثمانية عشر شهر فقط تسببت القوات الأمنية خلالها في مقتل مئة وخمسين من المتظاهرين السلميين علي الاقل وجرح الالاف لا تثبت خللا نفسيا واخلاقيا للرجل فحسب بل تعكس بجلاء اشكالا عميقا تعانيه المؤسسة العسكرية وتمثل بدورها الخيط الناظم بينها, أي بين التصريحات والمواقف المتباينة هذه, وأحد أسباب الازمة السودانية المتطاولة والتي وصلت نقطة انفجارها الكبرى يوم 15 ابريل الماضي.
فبجانب الخلل البنيوي لمؤسسات الدولة والذي فرض بحكم الامر الواقع By Defacto دورا سياسيا واقتصاديا متعاظما للجيش وهو ما سنتطرق اليه لاحقا, فان لوثة الإحساس بالاستحقاق الذاتي التي تصيب نخبة الضباط التي تديره وبعضا من صغار الضباط والجنود تمثل احد اهم الاسباب التي عمقت هذا الخلل واوصلته الي نقطة اللاعودة, بمعني استحالة تصور مستقبل طبيعي لدولة السودان دون تغيير جذري يطال اركان هذه المؤسسة ويعيد بنائها علي أسس جديدة تماما.
جدير بالذكر ان تعريف الإحساس بالاستحقاق الذاتي SelfEntitlement هو اعتقاد شخص ما بجدارته للحصول علي امتيازات معينة او اعتراف بمكانة رفيعة دون وجه حق ودون بذل الجهد المطلوب للفوز بهذه المكانة او الامتيازات, وهو سمة مرتبطة باضطرابات الشخصية النرجسية (NPD) و الشخصية المعادية للمجتمع (ASPD).
معلوم ان السودان حاصل علي الرقم القياسي الافريقي في عدد المحاولات الانقلابية منذ استقلاله كما يحمل رصيد 54 عاما من الحكم العسكري من مجموع عمر دولته القصير نسبيا والبالغ 67 عاما …اذاً ما الذي يجعل مجموعة من الأشخاص معدومي المواهب محدودي القدرات مثل البرهان ومجموعة الجنرالات الذين يحيطون به يعتقدون جازمين انهم يستحقون ان يكونوا علي رأس دولة كبيرة ومعقدة وعظيمة مثل السودان ؟, ما الذي جعل عشرات الضباط الاخرين قبلهم يعتقدون بأحقيتهم القيام بانقلابات عسكرية للسيطرة علي السلطة منذ العام 1956م ؟, ما الذي يجعل نسبة لا يستهان بها من طلاب الكلية الحربية ( الكلية التي تخرّج الضباط) وأقربائهم أحيانا يحلمون بالقيام بانقلاب عسكري وتقلدهم المنصب الدستوري الأعلى باستخدام القوة ؟ (اسر٘ البرهان في اول مقابلة تلفزيونية مطولة له عام 2019م أن والده حلم برئاسته للبلاد !) …
سجل التاريخ الحديث ان عظماء السياسيين الآتين من خلفيات عسكرية والذين بزّوا المدنيين في التنافس علي الزعامة عبر الاليات السلمية (الديموقراطية) كانوا مستندين, بجانب كاريزما شخصية لا تخطئها عين, علي ارث من الانتصارات العسكرية العظيمة, وكابرز الأمثلة لهؤلاء يمكن ذكر شخصيات مثل شارل ديغول او ايزينهاور, وهو ما لم يتسني تحقيقه لجنرالات الجيش السوداني بما انه لم يخض غير الحروب الاهلية منذ تأسيسه, او علي مواهب ادبية فذة كتشيرشل او علي مسيرة سياسية طويلة بعد الخروج من السلك العسكري, وفي المقابل و طوال 46 عام , أي طوال عهدي النميري والبشير , فقد تسنم الحكم جنرالات ذوي رصيد معرفي محدود وفاقدين للمميزات الشخصية وهو ما فتح الباب واسعا امام جموع واسعة من الضباط الاخرين ودفعهم لرفع سقف تطلعاتهم بغض النظر عن امكاناتهم الشخصية او كسبهم المهني او المعرفي وفي بال اي واحد فيهم تساؤل مشروع :” لم لا ما دام مثل هؤلاء قد أصبحوا رؤساء؟!”.
كما ان الترجيح الكبير لكفة المكاسب المتوقعة نتيجة للقيام بمغامرة الانقلاب العسكري علي كفة مخاطر التعرض للعقاب جعل من الامر اكثر جاذبية, فرغم ان الانقلابات العسكرية تعتبر في غالب قوانين العالم جريمة ترقي للخيانة العظمي ما يتطلب انزال عقوبة الإعدام علي مرتكبيها الا انه نادرا ما حوكم الضباط المغامرون في السودان بما يتعدي بضعة سنوات من السجن تخفف لاحقا في الغالب, وهو ما جعل من تقديم الجنرال البشير ومجموعة اخري من العسكريين و المدنيين والعسكريين للمحاكمة بتهمة انقلاب يونيو 1989م سابقة في القضاء السوداني ونجاحها نسبيا لثووة ديسمبر المجيدة وإن لم تكلل بإدانة وحكم نهائي.
عزز من إحساس الاستحقاق الذاتي أيضا ترسخ عقيدة عسكرية جوهرها الرغبة الدائمة في السيطرة علي مقاليد الحكم , وهو وضع لديه مسببات موضوعية كملئ الجيش للفراغ الذي فرضته هشاشة مؤسسات الدولة ما بعد الاستعمار وتضعضع المؤسسات الديموقراطية وعلي راسها الأحزاب وضعف النخبة السياسية ومحدودية رؤاها بل استغلالها أحيانا للمؤسسة العسكرية ذاتها لحسم التباينات السياسية خارج القنوات الديموقراطية, لكن وبجانب ذلك وعبر الحقب المتعاقبة فقد وضعت العقلية العسكرية منهجا مدروسا ومنظما لتعميق اعتقاد العسكريين بتفوقهم علي المدنيين ( يطلق عليهم في الوسط العسكري تهكما بالملكية) ولازدراء نظام الحكم الديموقراطي وقيمه بل يعمل علي اعداد هؤلاء العسكريين للحكم, ففي احدي ارفع الكليات العسكرية السودانية , اكاديمية النميري, هنالك سلسلة دراسية كاملة لكيفية تسنّم الضباط لمناصب سياسية ويتم في جزء منها القيام بتدريب عملي اشبه بالبروفات المسرحية يلبس فيها المتدربون البدلات الكاملة وربطات العنق المزركشة ويجلسون علي مكاتب وثيرة محاطين بمدراء مكاتب وسكرتيرين وطاقم كامل من الموظفين, وهو المنهج الذي أوصل السودان الي وضعه الكارثي الحالي , او كما أشار بروفيسور علي مزروعي في نقد نظم الحكم الديكتاتوري العسكري في افريقيا:
” كنتاج للانقلابات العسكرية المتكررة, أصبحت السلطة بدلا من ان تكون تحت سيطرة من يمتلكون وسائل الإنتاج محصورة في يد عسكريين يسيطرون على وسائل الدمار.”
ليس هذا فحسب بل اري ان العقلية الانقلابية او آفة الاستحقاق الذاتي التي ظلت متفشية في صفوف النخبة العسكرية لعقود طوال اعادت تشكيل المؤسسة العسكرية ذاتها بصورتها الشائهة الحالية, فمن ناحية وظيفية ظل الجيش متنازعا بين انشغال بعضا من ضباطه, في الغالب ضمن خلايا تدين بالولاء لتنظيمات سياسية عقائدية من اقصي اليمين او اليسار للاعداد للانقلاب علي نظام الحكم وبين عمل مضاد استنفذ موارد هائلة لكشف تلك المؤامرات واجهاضها بدلا من توجيهها لتطويره وتقويته وتحديثه حتي يتمكن من القيام بواجبه وبدوره المناط به دستوريا , وادي ضمن اعراض جانبية اخري الي تعمق ظاهرة تفويض صلاحياته وسلطاته ومهامه الي مليشيات مسلحة تم محاولة تنظيم بعضها ووضعها تحت مظلته الإدارية كحرس الحدود الذي تحول الي قوات الدعم السريع لاحقا او قوي نظامية مدنية ومسيسة الي حد كبير كجهاز الامن الوطني ( هيئة العمليات) والشرطة ( قوات الاحتياط المركزي او ما يعرف بابو طيرة).
لكن الأهم من ذلك هو ما نتج عنه من منهج لاحكام القبضة علي نخبة الضباط من قبل القيادة العليا التي تجمع مع تلك الوظيفة مهام الزعامة السياسية وهو ما ادي الي ان يصبحوا خاضعين تماما لاهواء قلة مسيطرة علي هذه المؤسسة وبيدهم سلطة ترقيتهم واحالتهم للمعاش او للصالح العام او انتدابهم لوظائف ذات دخول عالية او ارسالهم للتدريب في الخارج او نقلهم الي مناطق العمليات او الي وظائف مريحة ومربحة كالملحقيات العسكرية بالخارج.
كما لا ننسي ان تمدد القطاع الأمني والعسكري في النشاط الاقتصادي منذ ثمانينات القرن الماضي بجانب عملية مأسسة الفساد التي ترسخت خلال ثلاثين عاما من الحكم الكليبتوقراطي للجنرال لببشير جعل من الترقي الوظيفي داخل الجيش ضمانا للخروج من الفاقة (يبلغ مرتب اللواء ما يساوي 150$ شهريا فقط) والدخول من باب الثراء الواسع غير المحدود, فتحول كبار الجنرالات وعلي راسهم البرهان الي طبقة اوليغاركية عسكرية بامتياز تسيطر علي ما يفوق ال 30% من الناتج الإجمالي المحلي عبر النشاط التجاري للمنظومة الأمنية والعسكرية وبالتالي تمتلك الوسائل الكافية لشراء ولاء شريحة واسعة من الضباط وبعضا من الوكلاء المدنيين ما مكنها من احكام السيطرة علي الجيش وتدجين أجهزة الدولة الاخري والمضي قدما في محاولة إعادة انتاج نظام حكم عسكري كليبتوقراطي جديد وشرعنته.
وهو ادي في نهاية الامر الي تحول الجيش الي مزيج الحزب السياسي الساعي للسلطة لكن بقوة السلاح والشركة الربحية التي تدر موارد ضخمة علي أعضاء مجلس ادارتها وفشله بالمقابل في القيام بدوره الأساسي في توفير سلعة الامن لمالكيه الأصليين اي جموع الشعب السوداني.
………………………………………………………………………..
“البرهان عليك التكلان.”
عبارة ركيكة كتبت تحت صورة مكبرة للجنرال البرهان وحملت نسخ عديدة ومصقولة منها من قبل مجموعة صغيرة من المتظاهرين العسكريين بلباس مدني في شارع القصر الجمهوري بالخرطوم نهار يوم 1 يونيو 2019م, أي قبل 36 ساعة تقريبا من بداية تنفيذ الأجهزة الأمنية لمجزرة اعتصام القيادة العامة والتي راح ضحيتها مئات من المدنيين.
المصدر: صحيفة التغيير