لم تكن “عائشة محمد”، التي تقطن بالقرب من مستودعات الشجرة للغاز بالخرطوم، تتوقع أن تكون نهاية والدتها المصابة بالربو بهذه الطريقة المأساوية. بعد أن فاضت روحها قبل وصولها إلى أقرب مستشفى في الأيام الأولى للحرب، بعد أن تم قصف تلك المستودعات وظلت النار تشتعل فيها لأكثر من أسبوع دون أن يتم السيطرة عليها وإخمادها.

الخرطوم: التغيير

وتسببت الحرائق بأزمات صحية لشريحة كبيرة من المواطنين من سكان الخرطوم، خاصة المصابين بأمراض التنفس والربو، بعد خروج 80% من المرافق الخدمية عن الخدمة منذ الأيام الأولى لاندلاع حرب 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

والدة عائشة ليست الوحيدة التي فقدت حياتها بسبب مخلفات الحرب في الخرطوم، حيث تواصلت حرائق الاشتباكات في المدينة لنحو عامين دون توقف، مما نتج عنه وفيات كبيرة لم يتم الكشف عن أعدادها الحقيقية.

ودفن مئات الأشخاص وسط الأحياء السكنية بالخرطوم وبحري وأم درمان، لانعدام الممرات الآمنة إلى المقابر العامة، مما ينذر بكارثة بيئية تلوح في الأفق مع دخول فصل الخريف، الذي تنتشر فيه الأوبئة والأمراض.

رفاة ضحايا الحرب في الخرطوم

وكشفت السيول الجارفة والأمطار في منطقة الوادي الأخضر شرق العاصمة الخرطوم يوليو الماضي، عن العديد من الجثث التي دُفنت على عجل. فيما أوضحت السلطات المحلية أنها تلقت بلاغات تفيد بجرف السيول جثث جنود يتبعون لقوات الدعم السريع في تلك المنطقة، مشيرة إلى أن الأمطار أدت إلى تراكم المياه في مناطق متعددة في المنطقة، ما أسفر عن ظهور الجثامين.

انتشار الأمراض

ويقول عضو بغرفة طوارئ البراري لـ (التغيير)، إن منطقة البراري سجلت أكثر من 1000  حالة إصابة بالملاريا وحمى الضنك،  مضيفًا أن الوضع الصحي في المنطقة “خطير للغاية”، حيث تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في الإصابات بالمرض الذي وصفه بأنه “يفتك بالمواطنين”.

غرفة طوارئ البراري: منطقة البراري سجلت أكثر من 1000 حالة إصابة بالملاريا وحمى الضنك، والوضع الصحي خطير للغاية

وأشار إلى أن السلطات الصحية في ولاية الخرطوم لم تتحرك لإنقاذ آلاف الأرواح في البراري، خاصة بين الشرائح الضعيفة مثل الأطفال، والنساء الحوامل، وكبار السن.

وأكد أن غرفة الطوارئ تعمل بالعون الذاتي لمكافحة  الأمراض التي انتشرت في فصل الخريف بسبب مخلفات الحرب والمتكدسة في المنطقة إلى جانب نمو الحشائش.

الأمراض المنقولة

من جهتها، تقول المختصة في الصحة العامة والأوبئة، الدكتورة سارة علي، إن انتشار الجثث ومخلفات الحرب يزيد من خطر الأمراض المنقولة بواسطة النواقل والحشرات، مثل الملاريا وحمى الضنك.

وأشارت إلى أن التلوث بمخلفات الحرب والجثث يؤدي إلى تلوث المياه وانتشار الأمراض المنقولة عبر المياه، مثل الكوليرا والدوسنتاريا.

مختصة في الصحة العامة والأوبئة: انتشار الجثث ومخلفات الحرب يزيد من خطر الأمراض المنقولة بواسطة النواقل والحشرات، مثل الملاريا وحمى الضنك

وأكدت أن جميع هذه الأمراض المرتبطة بالنواقل تظهر بكثرة نتيجة تراكم الجثث وتوالد الحشرات، ما لم تعالج الجثث بالطريقة الصحيحة، مثل النقل خارج الأحياء السكنية ودفنها، وتنفيذ حملات إصحاح بيئي من رش وتعقيم.

ولفتت إلى أن انهيار الصرف الصحي وعدم وجود تصريف جيد،  سيزيد من انتشار الأمراض والأوبئة خاصة مع توقعات بحدوث فيضانات وسيول.

وحذرت من أن الوضع سيكون صعبًا للغاية وستزداد معدلات الأمراض إذا لم يتم التعامل مع هذه القضايا بفعالية.

 الضرر البيئي

ويحذر خبراء ومختصون من خطورة الأسلحة التي استُخدمت في المناطق المكتظة بالسكان، فضلاً عن الحرائق والانفجارات وغازات البارود، مع وجود كميات كبيرة من العناصر الكيميائية الثقيلة والشظايا والمقذوفات غير المتفجرة في مناطق الحرب. نتج عن ذلك تلوث الماء والهواء والتربة، مما يهدد حياة الإنسان والحيوان بخطر محدق لا تظهر آثاره في الوقت الحالي.

ويقول الخبير في البيئية  محمد عبد الصمد لـ (التغيير): إن مخلفات الحرب تُعد واحدة من أخطر الكوارث البيئية التي يواجهها السودان.

وأضاف أن البيئة في السودان تعاني من هشاشة مزمنة نتيجة للتغير المناخي والتصحر والاستغلال غير الرشيد للموارد، ولم تعد قادرة على تحمل المزيد من الصدمات الاصطناعية الناجمة عن الحروب، مثل حرق النفايات بطرق غير آمنة.

وتابع: أن مخلفات الحرب، المتمثلة في حرائق الوقود والمواد الكيميائية، ليست مجرد لهب يدمر البنية التحتية، بل هي “انفجار بيئي صامت” يطلق في الهواء كميات كبيرة من الغازات السامة، بما في ذلك أول أكسيد الكربون وأكسيد الكبريت والمركبات الهيدروكربونية والجسيمات الدقيقة العالقة التي تبقى في الجو لفترة طويلة. وأوضح أن هذه المواد لا تلوث الهواء فحسب، بل تخترق الرئتين البشريتين والنسيج البيئي، وتؤثر على دورة الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة.

خبير بيئي: مخلفات الحرب تُعد واحدة من أخطر الكوارث البيئية التي يواجهها السودان

وأشار الخبير البيئي إلى أن التربة المحيطة بمواقع الحريق معرضة للتلوث الكيميائي طويل الأمد. وقد تصبح الأراضي الزراعية القريبة غير صالحة للزراعة بسبب امتصاصها للمواد السامة، مما يؤدي إلى تدهور الغطاء النباتي المحلي وفقدان خصوبة التربة، وبالتالي تسارع وتيرة التصحر.

ومع غياب آليات الطوارئ البيئية والبنية التحتية للرصد والاستجابة، يخشى أن تمر هذه الكارثة دون احتواء أو تقييم علمي دقيق.  كما شدد على أهمية توعية المواطنين بضرورة الحفاظ على البيئة.

طالب عبد الصمد بضرورة إعادة تأهيل البيئة المتضررة، وإدارة الموارد الطبيعية بشكل سليم، والحد من التلوث، وإزالة الألغام، وتنظيف المواقع الملوثة، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية، وإدارة النفايات بطريقة صحيحة، وتوفير مياه نظيفة وصالحة للشرب.

وكانت بعثة الأمم المتحدة في السودان حذرت  من المخاطر التي يمثلها التلوث بالذخائر المتفجرة على حياة المدنيين، مما يؤدي إلى القتل والتشويه العشوائي وإعاقة إعادة تأهيل البنية التحتية العامة، بما في ذلك المدارس والطرق.

الأمم المتحدة في السودان: التلوث بالذخائر المتفجرة يؤدي إلى القتل والتشويه العشوائي وإعاقة إعادة تأهيل البنية التحتية

وقالت البعثة إن “النزاع الحالي الذي اندلع في 15 من أبريل يزيد الطين بلة. فالاستخدام المكثف للذخائر المتفجرة خلال القتال، يزيد الخطر على حياة المدنيين ولا سيما الأطفال الذين يمكن أن يخطئوا في فهم خطورة هذه العبوات وقد يتصورونها ألعابا فيلهون بها”.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.