حرب السودان تتجاوز الحدود
خلال ثلاثة أسابيع متتالية، شهدت ثلاث من الدول المجاورة للسودان والمتأثرة بالحرب فيه تغييرات على رأس أجهزة المخابرات. ورغم أن أسباب هذه التغييرات تبدو متعددة وذات أبعاد داخلية وإقليمية خاصة بكل من تشاد وجنوب السودان ومصر، إلا أن الأوضاع في السودان وتطورات الحرب لا يمكن أن تترك جانبا عند النظر لهذه التغييرات ومحاولة فهم دوافعها.
تشاد: ضربة لداعمي قوات الدعم السريع
البداية جاءت من تشاد، حيث أصدر الرئيس محمد دبي قرار في 28 سبتمبر الماضي بإقالة إدريس بوي، الوزير ومدير مكتب الرئيس والمسؤول عن الأجهزة الاستخبارية من موقعه. وعين إدريس بوي في هذا الموقع في أبريل 2021 مع بداية الفترة الانتقالية وتمت إقالته للمرة الأولى في يونيو 2022 قبل أن يعود مرة أخرى لموقعه في يناير 2023. القرار قد يبدو منطقيا بعد تهميش دور ادريس بوي بشكل منظم منذ جريمة اختلاس اموال الدولة التي اتهم فيها ادريس بوي وتم ايداعه السجن ثم خرج بأمر من محمد ديبي. ” ذكر محمد ديبي في كتابه ” من البادية الى الرئاسة “، ان ادريس يوسف بوي اختلس اموال من الدولة ” ١٣ مليار فرنك افريقي ” لكن بعد ان اعترف واعاد الاموال تم اخلاء سبيله وسامحه الرئيس “.
لكن الخبير الفرنسي في شؤون منطقة الساحل، ميشيل بوتو، كشف لراديو دبنقا أن الإقالة تبدو مرتبطة بعدة أسباب وفي مقدمتها الضغوط التي تمارسها المجموعة القبلية للرئيس محمد ديبي والتي تتهم إدريس بوي بالوقوف وراء الموقف التشادي الداعم لقائد قوات الدعم السريع وبإيعاز من الإمارات. ويتوقع ميشيل بوتو أن تكون هذه الإقالة مقدمة لترتيب البيت الداخلي حيث اتسمت علاقات إدريس بوي بالتوتر مع عدد من الوزراء في الحكومة وكذلك بقيادات عسكرية بارزة خصوصا في قوات الحرس الرئاسي بعد أن دفع إدريس بوي وساهم بشكل رئيسي في تشكيل قوة “التدخل السريع” التي تتشكل بنسبة 80% من قبيلة والدة محمد دبي لتكون قوة موازية لقوات الحرس الجمهوري التي يسيطر عليها أخوان والده.
مراجعة سياسة تشاد تجاه السودان
ولم يستبعد الخبير الفرنسي أن تكون الضغوط التي تمارسها واشنطن على أبو ظبي وانجمينا من أجل وقف دعمهما لقوات الدعم السريع قد عجلت بإقالة مدير مكتب الرئيس النافذ. ويذكر ميشيل بوتو في حديث لراديو دبنقا بأن الرئيس محمد دبي أصيب بخيبة أمل كبيرة من عدم تجاوب الإمارات مع مطالبه المتعددة للحصول على المزيد م المساعدات في مقابل دعمه لقوات الفريق محمد حمدان دقلو في السودان ويحمل مدير مكتبه وعراب العلاقات مع دولة الإمارات مسؤولية هذا الفشل. وتقدر المساعدات التي قدمتها دولة الإمارات لتشاد منذ بداية الحرب بحوالي 500 مليون دولار في مقابل وعود بتقديم مساعدات تصل إلى 1.5 مليار دولار بالإضافة إلى دعم عسكري مباشر يتمثل في مركبات مدرعة ومساعدات إنسانية للتعامل مع الأزمة الإنسانية الناتجة عن نزوح 2 مليون لاجئ سوداني من دارفور إلى داخل الأراضي التشادية.
وقد عين الرئيس محمد دبي الوزير السابق، إدريس صالح بشار بديلا لإدريس بوي بعد أن كان قد استبعد من موقعه الوزاري في التغيير الوزاري الأخير في مايو 2024. وينتظر أن يعمل الرئيس محمد دبي في الفترة القادمة على توطيد علاقاته مع مصر والسعودية وأن يسعى لتحسين العلاقات مع فرنسا الأمر الذي قد يكون مقدمة لإعادة ترميم علاقاته بحكومة بورتسودان بالرغم من التصريحات السالبة التي يطلقها قادة القوات المسلحة وتستهدف الرئيس محمد دبي شخصيا وخصوصا من جانب الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام والرجل الثالث في السلطة في السودان.
جنوب السودان: توازنات داخلية
في مساء الأربعاء 2 أكتوبر 2024، أعلن التلفزيون الرسمي لجنوب السودان عن أن الرئيس سلفا كير ميارديت أصدر مرسوما رئاسيا بإعفاء مدير جهاز الأمن الوطني، الجنرال أكور كول كوك، بعد أن قضى 11 عاما في هذا الموقع المفصلي في مؤسسات السلطة في دولة جنوب السودان منذ إعلان استقلالها في العام 2011. وأول ما لفت الأنظار في هذا القرار أنه صدر في غياب المعني به الذي كان متواجدا في دولة الإمارات في هذا التاريخ. وعين الرئيس سلفا كير الجنرال أكيج تونغ أليو بديلا له وهو من المقربين من الرئيس.
لكن ضابطا متقاعدا من جهاز المخابرات العامة في السودان وأحد المطلعين على تطورات الأوضاع في جنوب السودان رجح في حديث لراديو دبنقا أن يكون قرار الإقالة مرتبط بالتطورات الداخلية والمتعلقة بقرار حكومة جنوب السودان تأجيل الانتخابات التي كان مقررا إجرائها قبل نهاية العام الحالي وتمديد الفترة الانتقالية لعامين إضافيين.
ويضيف الخبير الأمني المتقاعد، أن الأنباء المتداولة عن تدهور الوضع الصحي للفريق سلفا كير في الفترة الأخيرة فتح صراع خلافته، ما يشير إلى أن هناك مراكز قوى داخل الحكم في جنوب السودان تسعى لإضعاف التيار الذي يقوده توت قلواك، المستشار الأمني للرئيس سلفا كير والمعروف بعلاقته الوطيدة مع المدير السابق لجهاز الأمن الوطني.
ويضيف ضابط الأمن المتقاعد أن الجنرال أكور كوك كول عمل في السنوات الماضية على إنشاء قوة ضاربة تتبع لجهاز الأمن الوطني، مماثلة لهيئة العمليات في السودان، وتم تجهيزها وتدريبها بشكل أفضل من الجيش الشعبي ما ترك مخاوف من أن له طموحات سياسية وأن هذه القوة قد تلعب دورا في حسم أي صراع على السلطة في حال اختفاء الرئيس سلفا كير من المشهد أو عدم قدرته على أداء مهامه لأسباب صحية.
البعد السوداني
ورغم أن الأسباب المباشرة للإقالة تبدو داخلية خصوصا وأن الجنرال أكور كوك كول يعارض المفاوضات التي تجريها جوبا حاليا في نيروبي مع عدد من الفصائل المعارضة غير الموقعة على اتفاق السلام في 2018، إلا أن الأوضاع في السودان لا تبدو بعيدة عن هذه التطور وفق ما ذكره الضابط المتقاعد من جهاز المخابرات العامة في السودان. حيث عملت حكومة جنوب السودان منذ بداية الحرب على إعلان حيادها وعدم انحيازها لأي طرف وبذلت جهودا للوساطة بين طرفي الحرب مع استمرار التعامل مع حكومة بورتسودان كحكومة أمر واقع مثلها مثل الكثير من الدول.
ومن الواضح أن الرئيس سلفا كير يأخذ على مدير جهاز الأمن الوطني فشله في منع استغلال قوات الدعم السريع لأراضي جنوب السودان لتهريب الأسلحة والمعدات لقواتها التي تسيطر على أجزاء واسعة من الحدود المشتركة بين البلدين. وكان قائد عام الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان، قد احتج في عدد من اللقاءات والاتصالات مع نظيره الجنوبي على سماح دولة جنوب السودان باستخدام أراضيها لإيصال الامدادات لقوات الدعم السريع.
ويقول ضابط الأمن المتقاعد في حديثه لراديو دبنقا أن الرئيس سلفا كير يحمل جهاز الأمن الوطني المسؤولية في المصاعب التي يواجهها تصدير نفط جنوب السودان عبر الأراضي السوداني. حيث فشل الجهاز في إجراء ترتيبات مع طرفي الحرب في السودان تتيح استمرار التفاهمات التي تم التوصل إليها في الأيام الأولى للحرب والتي سمحت باستمرار تدفق النفط عبر خطوط الأنابيب إلى بورتسودان حيث يتم تحميله على الناقلات.
مصر: قرار مفاجئ
أصدر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قراراً يوم الأربعاء 16 أكتوبر بتعيين اللواء حسن رشاد مديرا للمخابرات العامة المصرية بدلاً ع اللواء عباس كامل. وبموجب ذات القرار، انتقل اللواء عباس كامل لتولي مهمة مستشار رئيس الجمهورية ومنسق عام الأجهزة الأمنية والمبعوث الخاص لرئيس الجمهورية.
المدير الجديد تخرج من الكلية الفنية العسكرية وانضم إلى جهاز المخابرات، حيث تدرج في المناصب حتى تمت ترقيته إلى منصب وكيل جهاز المخابرات، قبل أن يُعين رئيساً للجهاز. يعتبر اللواء حسن الرئيس السابع والعشرين لجهاز المخابرات المصرية منذ تأسيسه في الخمسينات من القرن الماضي.
قرار إعفاء اللواء عباس كامل شكل مفاجأة للمراقبين باعتباره أحد أقرب مساعدي الرئيس عبد الفتاح السيسي للحد الذي يدفع البعض بوصفه بنائب الرئيس، كما أنه تولى هذا المنصب منذ يناير 2018 خلفا للفريق خالد فوزي وبعد أن كان مديرا لمكتب الرئيس إبان رئاسته للمخابرات الحربية ومن ثم مديرا لمكتبه كوزير للدفاع في حكومة الرئيس محمد مرسي ومن ثم مديرا لمكتب رئيس الجمهورية.
وعن هل ينعكس هذا التغيير على السياسة المصرية تجاه السودان، أوضح الخبير الأمني السوداني أنه بالرغم من وجود جهازين آخرين للأمن والمخابرات (المخابرات الحربية والأمن الوطني)، إلا أن جهاز المخابرات العامة يظل الجهاز المسؤول مباشرة عن الملف السوداني. وأشار إلى أن النخب السياسية السودانية، وخصوصا في فترات الحكم المدني، ظلت تحتج باستمرار على تعامل الدولة المصرية مع السودان كملف أمني وإسناده للمخابرات العامة بدلا عن وزارة الخارجية باعتباره ملف دبلوماسي يخص علاقات دولة بأخرى.
وإذا كان البعض يربط ما بين إعفاء اللواء عباس كامل وبقائه في منصبه لفترة طويلة الأمر الذي عزز دوره ونفوذه في دهاليز السلطة في مصر، إلا أن الضابط المتقاعد من جهاز المخابرات العامة شدد على أن هناك عدد من الأسباب بعضها مرتبط بالسودان وبعضها مرتبط بملفات إقليمية أخرى هي التي دفعت الرئيس عبد الفتاح السيسي للإطاحة باللواء عباس كامل والذي بالرغم من تكليفه بمهام جديدة، إلا أنها تبدو مهام تشريفية لإبقائه تحت سلطة الرئيس المباشرة.
مؤشرات الفشل في السودان
ويعدد الخبير الأمني السودان أربع مؤشرات على فشل السياسة المصرية في السودان منذ انقلاب 25 أكتوبر ويتحمل مسؤوليتها مباشرة اللواء عباس كامل. فالانقلاب الذي نفذ بدفع من “القاهرة” فشل في تطبيع الأوضاع والسيطرة عليها ولم ينجح حتى في تشكيل حكومة. يضاف إلى ذلك فشل جهاز المخابرات العامة في توقع اندلاع الحروب وسيطرة الدعم السريع على مطار مروي واسره للعشرات من الجنوب والضباط المصريين الذين تم إطلاق سراحهم لاحقا بوساطة إماراتية.
أكثر من ذلك، فشل الجهود المصرية لتجميع القوى المدنية عبر مؤتمر “القاهرة” خصوصا بعد أن رفض حلفائها في “الكتلة الديمقراطية” التوقيع على البيان الصادر عن الاجتماع، مع العلم أن الكتلة الديمقراطية تم تكوينها في القاهرة وبإيعاز من المخابرات المصرية كترياق ضد الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغييرالمجلس المركزي وقيادة القوات المسلحة قبل اندلاع الحرب بأشهر قليلة.
يقول الخبير الأمني السوداني أن هناك معلومات متداولة عن خلافات بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وقيادة القوات المسلحة المصرية بشأن الملف السوداني، حيث ينزع الرئيس المصري إلى محاولة إرضاء الإمارات سعيا لتأمين الحصول على المساعدات المالية الحيوية التي تقدمها لمصر، بينما ترغب قيادة المؤسسة العسكرية في تقديم دعم مكثف ومباشر لنظيرتها السودانية لحسم النزاع عسكريا أو إنهاك قوات الدعم السريع لإجبارها على التفاوض من موقف ضعف. أخيرا جاءت الاتهامات المباشرة والعلنية لقائد قوات الدعم السريع لمصر بالتدخل عسكريا في الحرب بمثابة ضربة قوية لأي دور مصري في أي جهود مستقبلية لتسوية الأزمة في السودان.
الأقلمة تمهيدا التدويل
استنادا إلى كل هذه المعطيات، يبدو واضحا أن الأزمة في السودان قد تمددت إلى خارج الحدود وإن أي حل للأزمة يفترض أن يأخذ في الاعتبار كل هذه الامتدادات الإقليمية للأزمة التي تزداد مع كل يوم جديد تستمر فيه الحرب وتنذر بتحولها إلى قنبلة إقليمية تجر تدخلات دولية.
دبنقا
المصدر: صحيفة الراكوبة