حرب السودان بين الانتصار والانتقام السودانية , اخبار السودان
ناصر السيد النور
لم تتجاوز حرب السودان طبيعة الحروب ونتائجها، بل مضت إلى ما يتجاوز ما يحتمله الضمير الإنساني من بشاعات فظيعة ارتكبت بحق المدنيين أثناء الحرب وبعدها في كل المناطق التي شهدت سيطرة الجيش أو الدعم السريع. ففي أعقاب دخول قوات الجيش السوداني الأسبوع الماضي إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة وسط السودان بعد أن انسحبت منها قوات الدعم السريع بعد عام، ويزيد سيطرته على أهم عواصم الولايات بوسط السودان وما صحب ذلك من تصفيات وعمليات ذبح بشعة بحق المدنيين بتهم التعاون مع العدو، ولكن في الواقع بدأ الاستهداف على أسس عنصرية ومناطقية تجاوزت فيها كل المعايير الأخلاقية والإنسانية.
وكشفت هذه الأفعال البربرية عن طبيعة ما أحدثته الحرب في الشخصية السودانية والشرخ المجتمعي الذي طال مكوناتها المركبة. فما تم بثه عبر الوسائط الإعلامية من صور الذبح والتقتيل المروعة ذكرت العالم بمذابح رواندا 1994 وغيرها من تصفيات شهدها السودان نفسه على مدار تاريخ حروبه الأهلية القذرة.
ونسبت هذه الانتهاكات الموثقة إلى قوات الجيش السوداني الذي وفق البيانات المتضاربة بين نفي والوعد بمحاسبة الجناة تشير هذه الفظائع إلى تعدد الجهات المقاتلة من مليشيات الحركة الإسلامية وغيرها من حركات دارفور (القوة المشتركة) ومكونات اجتماعية أخرى هدفها القتل على الهوية ثأرا. والهوية والهامش من بين معضلات الحوار السوداني الثقافي في وقت ما قبل أن تحاول جماعات سياسية تحقيقها عسكريا على تصوراتها الافتراضية.
فمنذ تفجر الصراع بين الطرفين الجيش والدعم السريع في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023 انجرف الصراع إلى الوجهة الإثنية والمناطقية إن يكن بطبيعة الشعارات التي تبناها الدعم السريع من سودان جديد وتفكيك البنية المهيمنة في وسط البلاد، أو التصنيف الذي انتهجه الجيش، ومن ورائه التحشيد القبلي بتصنيف قوات الدعم تحت مسميات تحقيرية عديدة ليس أقلها المرتزقة وعرب الشتات وغيرها من صور نمطية ظلت مستخدمة ضد أي تحرك باتجاه سلطة المركز القابضة.
ووسط الفوضى التي خلقتها الحرب كان الجو مثاليا لعودة حروب القبائل السودانية تحت مظلة الدولة وقوة السلاح، وكل من الطرفين لا يعنيهما التقيد بالمواثيق الدولية والأعراف أو أخلاق الصراعات في تجنيب مدنيين عزل وأعيان مدنية ويلات الصراع يفترض وجودها خارج دائرة الاستهداف العسكري.
أما وقد اتضح مسار الحرب بطابعها الأهلي البشع، فإن القوة ميزان الحرب لم يزل سجالا بين الطرفين فلا نصر حاسم ينهي الحرب لصالح أي طرف أو تحقيق حد أدنى بالاعتراف بآثار الحرب المدمرة يقود إلى تفاوض، ولو أن الشيء الوحيد المستمر اتساع دائرة الانتهاكات بحق المدنيين.
فمن هم هؤلاء المدنيون ضحايا الانتصارات الأخيرة للجيش؟ فالسودان مثلما تقسمه الجغرافيا هناك خارطة اثنية تتعدى الإشارات الجغرافية إلى الهوية الإثنية التي تعرف السودان في تكوينه السكاني وفق تراتبية قبلية وجهوية محددتين على مقياس أدوات الدولة. فالذين طالتهم الانتهاكات قبل الأحداث الأخيرة مثلما شهدت مدن في الشمال والشرق بذريعة الوجوه الغريبة هم في الأصل المنتمين إلى الغرب بكل ما يعنيه في المخيلة التاريخية لجماعات الوسط والشمال، واصحبوا في الصراع الدمى يطلق عليهم بالحواضن الاجتماعي للدعم السريع.
فأحداث ولاية الجزيرة في جيتوهات (الكنابي) العمال الزراعيون التي شهدت تصفيات عرقية لمكونات تعود أصولها إلى دارفور جماعات عرقية تصنف بالأفريقية، بينما الجماعات الأخرى (الدعم السريع) من دارفور وكردفان من ذوي أصول عربية. ويدخل في هذه التصنيف الجيش الذي يكون المنتمون إلى الغرب قواته الرئيسية من قوات المشاة منذ نشأته.
في إطار المركز استقرت النظم القبلية، واستوعبت آليات الدولة، فتشكل خطاب المركز على خلفية تصورات القبيلة وهي بالضرورة منظومة محدودة التمدد ومغلقة على أفرادها، فحتى حين استطالت كأحزاب سياسية كإطار سياسي لاستيعاب الأفراد ضمن نظم أحدث في منظوماته الطائفية، انتهى الأمر بأن التي تحزّبتْ القبائل، وليس الكيانات الاجتماعية برأي المفكر عالم الاجتماع السوداني الدكتور حيدر إبراهيم.
ما أشارت إليه التقارير الدولية بشأن الانتهاكات المرتكبة من قبل الطرفين طوال مدة الحرب التي اقتربت من العامين وما أعقب ذلك من عقوبات فرضتها بريطانيا والاتحاد الأوربي ومؤخرا الخزانة الأميركية على قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو كشف عن حجم فظاعاتها، دون أن يتبع ذلك تدخل دولياً من شأنه الحد منها، وخاصة أنها معنية بحقوق المدنية، وكل ما جاء في وثيقة حقوق الإنسان واتفاقية جنيف لحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب وديباجة الأمم المتحدة ومقررات مجلس أمنها.
وأن الذي يتسبب في الأخذ بالثأر كما يقول محللون خاصة ضد مكونات (حواضن) الدعم السريع ما ارتكب من قبل منسوبيه في عدة ولايات حتى في تلك الولايات التي يسيطر عليها في غربي السودان كولايات دارفور والجزيرة في الوسط والعاصمة الخرطوم، على الرغم من نفيه لهذه الاعتداءات ونسبتها إلى جماعات متفلتة لا تتبع إليه.
إن العمليات الانتقامية المنفذة بحق المدنيين في مناطق الطرفين سيولد حروبا أخرى ذات طبيعة قبلية في واقع السودان المتشابك اجتماعيا؛ مما يعني أن نزاعات أخرى ستعود إلى واجهة الصراع تقوم على الإبادة الجماعية والتصفية العرقية تشمل البلاد، وتتجاوز صراع الطرفين بمساره العسكري.
فالطرف التي يعتبر نصره منقوصا إذا لم يتبعه عمليات ذبح لمواطنين في الطرقات، وتوثقها الكاميرات سيفتح الطريق نحو مذابح تاريخية أخرى على نحو ما شهدته دولا ومجتمعات لم تتعاف منها على المدى الطويل. على الرغم من حدة التناقض في التكوين المجتمعي السوداني بقيت الدولة في السودان قائمة بفعل تناقضات الواقع السوداني نفسه، وليس انسجاما في أدنى حدوده، فالشروط التي أوجدت حالة لم تقد إلى تكوين إطار مقبول في إطار الدولة القومية NationState؛ فبنية المجتمع قبلية غير قابلة للذوبان بأعرافها الصلبة.
وإذا كانت الحرب فشلا سياسيا يتحمل الطرفين العسكريين والأطراف الأخرى التنظيمات السياسية المسؤولية فيه، فإن نتائج ما يحدث حربا وانتصار لا يتجزأ من طبيعة المسؤولية الأخلاقية قبل السياسية. وبهذه النتائج ينحدر السودان نحو هاوية لم يعد من تبقى من المواطنين ضحايا الحرب على استعداد لها جراء الجماعة والأمراض وما فتك بهم من الاستهداف والقصف العسكري.
ولكن في ظل غياب لأي مبادرة تلوح في أفق الانسداد السياسي الذي تشهده البلاد، وبعد أن صرح الفريق عبد الفتاح البرهان عقب عودته من جولة أفريقية ألا تفاوض مع قوات الدعم السريع، وعهدنا مع الشعب السوداني لن يهدأ لنا بال إلا بالقضاء على هذه الميليشيا المتمردة ودحرها. وبهذا يكون الوضع القائم مرشحاً لانتهاكات جسيمة لا تتوقف عند النصر العسكري، بل والانتقام العسكري والمدني على حد سواء.
فما أحدثته الحرب من انقسام مجتمعي داخلي متوقع في ظل انهيار بينة الدولة وانتشار لسلاح تتعدد مكوناته الإثنية وتشكيلاته العسكرية، فإن هذه الحرب قد وضعت السودانيين أمام اختبار وجودي لم يعهدوه من قبل مع تفاقم أزمة حرب أبعد ما تكون عن الحل. كي لا تكون الحرب الدائرة واقعا يمارسونه السودانيين، ويعيدهم إلى مرحلة ما قبل الدولة يفترض أن تتكامل الرؤية السياسية والعسكرية في تجنيب البلاد المزيد من المذابح. ولأن المعادلة السياسية في البلاد يصعب تحديدها من حيث التأثير السياسي المدني على ما يسود من خطاب عسكري متوحش، فإن الحل العسكري نفسه يقود إلى أزمة أعمق مما يتوقعه العسكريون من نصر حاسم يقضى على الحرب بالضربة القاضية.
المصدر: صحيفة التغيير