أحمد عثمان جبريل

“حين تصمت الدولة أمام الفساد، فإنها لا تفقد فقط هيبتها، بل تتنازل عن دورها الأخلاقي في الوجود”

 ألبير كامو

ذات صباح عليل وعقب اجتماع لهيئة التحرير، قال لي أستاذي فضل الله محمد (رحمه الله) رئيس التحرير في نقاش حول حادثة نفي أحد الأخبار الصحيحة، بعد أن أطلقها أحد المسؤولين للإعلام، ثم ما إن ملأت الدنيا وشغلت الناس، حتى أحدثت خلفها (ورطة) فسارع قائلها بنفيها.. قال لي: حينها لا ينشأ الشك والفوضى من خطأ النفي، بل من غياب آلية التصحيح.. وشدد قائلا: “إن النفي لا يعيب الشخص أو الدولة، بل يعكس يقظتها في التحري والمعالجة والتصحيح” كما يشير فضل الله كذلك هنا إلى آلية طريقة التصحيح في إيجاد المبررات المقنعة لهذا النفي والاهتمام بأسلوبه دون دمغ الجهة التي أوردت الخبر بالكذب، هذا الحديث بقي في الذاكرة، رغم مرور السنين؛ لأنه صحح فكرة، وهو يعني أن صمت الدولة نفسها في مواجهة خبرٍ خطيرٍ بهذه الطبيعة سواء أكان صحيحا أم لا يمثل قمة التسيّب، كما يؤكد أن الأجهزة الإعلامية في البلاد لا تزال تتعامل مع الأخبار كمنشورات مزاجية، لا كوثائق رسمية تُساءل وتُحاسب وتُؤرشف.

وفي سياق وقتنا الحاضر، زمن الحرب والفوضى، فإن الشفافية ليست ترفًا، بل هي طوق نجاة، وإن كانت الحكومات لا تستطيع مصارحة شعوبها بما تُبرمه من اتفاقات تمس ثرواتهم السيادية، فعليها أن تتحمل ثقل الشك، وفاتورة الفوضى.

فما حدث في قصة “ديب ميتالز” ليس مجرد صفقة تُعلن وتُلغى، بل هو مرآة صادقة لحال الدولة عندما تفقد السيطرة على روايتها.. الدولة التي تتنازعها النيران من أطرافها، لا تعود الكارثة في الحرب نفسها، بل في مؤسسات تساقطت أعمدتها الأخلاقية واحدةً تلو الأخرى، حتى أصبح النفي بديلاً للبيان، والصمت وسيلة للتمرير، وحذف التغريدة أهم من قول الحقيقة.

فالدولة التي تعصف بها الأزمات، يصبح الخبر الرسمي فيها ترفاً، والتصريح الحكومي حدثاً عابراً لا يكتمل حتى نهايته.. ففي مساء الخميس الخامس من سبتمبر 2025، أعلنت وكالة السودان للأنباء (سونا) وهي الجهة الرسمية المخوّلة بنقل صوت الدولة عن توقيع وزارة المعادن اتفاقية استثمارية مع شركة “ديب ميتالز” بقيمة تتجاوز 277 مليون دولار أمريكي.. الاتفاقية لم تكن هامشية، بل تضمّنت استحواذًا على 85% من منجم أركيديا، أحد أضخم مكامن الذهب في البلاد، فضلًا عن إنشاء مصنع لمعالجة مخلفات التعدين، ومصفى للذهب، في ما بدا أنه أكبر تحرك استثماري في قطاع الذهب منذ اندلاع الحرب.

ولكن المثير للدهشة، بل للريبة، أنه لم تمضِ 24 ساعة حتى اختفى كل أثرٍ رسمي لاحق للخبر: لا أثر له بعد عين.. لا تحديث من الوزارة، لا تصريحات إضافية، لا مؤتمر صحفي، ولا توضيحات عبر أي وسيلة رسمية.. (وهذا الذي كان يحدثني عنه الأستاذ فضل الله محمد) بل إن التغريدة التي نُشرت عبر حساب الوزير نور الدائم محمد أحمد طه على “إكس” (تويتر سابقًا) و”فيسبوك” نفسها قد حُذفت، كأنها لم تكن. أما “سونا” فقد نفت الخبر، واختارت أن تطعن في مصداقيتها، ثم لاذت بصمتها، ولم تُعد تُفسر نشر الخبر أو تراجعه، تاركةً وراءها فراغاُ إعلامياً مشبوهًا ومهيئاً لكل أشكال التأويل والاتهام، لمؤسسة عريقة مثل وكالة السودان للأنباء (سونا) والتي نقشت مصداقيتها في الصخر، ولها في ذلك عمر أكبر من هؤلاء المسؤولين الذين شوهوا سمعتها و(مرمطوها) في الأرض.

هذا الصمت.. صمت الدولة ثم (صمت سونا) نفسها، لا يُمكن أن يُفهم إلا بوصفه امتدادًا لفوضى أشمل: فوضى في اتخاذ القرار، في التواصل المؤسسي، وفي التزامات الدولة أمام مواطنيها. النفي أو بالأحرى، الهروب من الاعتراف لم يعد رد فعل مؤقت، بل أصبح سياسة، والبيان الوحيد الذي بقي هو الغياب.

إن القضية تتجاوز طبيعتها الاقتصادية والاستثمارية، لتصل إلى جوهر غياب الشفافية في دولة تتصرف وكأنها لا تُدين بمعلوماتها لأحد، ولا ترى في الشعب شريكًا، بل متفرجًا، وربما عالة.. نعم عالة ولا يهم معرفته لما يجري حوله في شيء.

وتزداد الأسئلة مرارة، حين تُطرح بصراحة: من هم الشركاء الحقيقيون في هذه الصفقة؟ ولماذا يُمنح رجل أعمال أجنبي وأسماء ظهرت فجأة في فضاء الاستثمار (والبزنز) وتصبح قريبة من دوائر السلطة والجيش (منهم محمد الجارحي، عمر النمير، ومبارك أردول) ولها كل هذا النفوذ على مورد سيادي مثل الذهب؟ ليأتي السؤال: هل تمّت دراسة الصفقة بشفافية؟ أين القانون؟ أين البرلمان؟ أين الرأي العام؟ والأهم: أين الدولة؟ من التوقيع ومن نفي التوقيع؟.

وهنا يبقى من المهم الإشارة إلى البرهان، لا كامل إدريس، رئيس الوزراء الذي يبدو في مقام الغائب الحاضر.. ليحضر السؤال الذي لا بد من حضوره ليُطرح، مهما كان صعبًا: أين البرهان من كل هذا؟ إنه رئيس السيادة، وقائد الجيش، والمتحكم الفعلي في السلطة المركزية، يبدو وكأنه يشاهد بصمتٍ مطبق الفساد، وهو ينخر في عظام الدولة، وأمام عينيه تُبرم الصفقات المشبوهة، وتُدار الثروات الوطنية كما لو كانت مزارع خاصة، ولا يُحرّك ساكنًا. لا كلمة، لا مساءلة، لا توجيه بالتحقيق، لا توضيح.

ألم ير البرهان هذه الاتفاقية؟ وإن رآها، هل باركها؟ وإن لم يفعل، فأين موقفه؟ وأين سلطته على الوزراء الذين يوقّعون باسم الدولة السودانية اتفاقيات بمئات الملايين ثم يصمتون، أو يحذفونها من صفحاتهم كأنها نزوة شخصية؟..

في كل الحالات، فإن غياب الصوت من رأس الدولة أمام صفقة بهذا الحجم، ووسط هذه الضجة، لا يفسر إلا بأحد احتمالين: إما علمٌ مشوب بالرضا، أو تجاهل مشوب بالإدانة، وفي كلا الاحتمالين، فإن الدولة (كما يمثلها البرهان) تتحمل مسؤولية أخلاقية وسياسية لا مهرب منها، فالصمت عن الفساد هو، في نهاية المطاف، نوع من الشراكة فيه.

للواقع أنه، وفي فوضى الدولة.. تغدو الذاكرة هشّة، ليست هذه المرة الأولى التي تفقد فيها مؤسسات الدولة خطابها الرسمي، وتترك المعلومة نهبًا للتأويل.. لكنها، دون شك، من أكثرها فجاجة، حين يتحوّل توقيع رسمي إلى مجرد خبر عابر، ثم إلى ظلال شبهة، يصبح الخطر أكبر من مجرد “خطأ بروتوكولي”.. إنه إنذار علني على موت الدولة بوصفها ضامنًا عامًا، وحكمًا، وراويًا للوقائع.

والأخطر أن مثل هذه الصفقات لا تُناقش على المنصات المؤسسية، بل تُتداول في مجموعات الواتساب، وصفحات التواصل الاجتماعي، وفي المجالس السرّية، ويكشف عن فسادها الصحفيين، بينما تلوذ الدولة الرسمية بالصمت، أو تحتمي خلف منصات لا تملك شجاعة تأكيد ما أذاعته.

إن الشفافية لا تُقاس بعدد المؤتمرات الصحفية، بل بمقدار ما تجرؤ الدولة على الاعتراف به أمام شعبها، وإذا كانت الحكومة لا تملك شجاعة شرح صفقة تعدين تُدار باسمها، ويبث خبرها وينفى في مؤسساتها الإعلامية العريقة، فإنها لا تملك في الحقيقة شرعية إدارتها.. أما حين يصبح حذف تغريدة أهم من توضيح صفقة، فلا حديث هنا عن “إعلام”، بل عن انهيار في القيم، وتشظٍ في الدولة، يُضاف إلى شظايا الحرب والمجاعة والنزوح..

إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.