حادثة لندن استهداف للثورة، وليس لتقدم فقط؟
صلاح شعيب
تسعى تقدم الآن لتكون فاعلة سياسياً وسط دوي مدافع الحرب الهادرة، ومرة أخرى تحاول أحزابها إقناع جماهيرها بأنها قادرة على معالجة أخطائها السابقة باختراق سياسي لإيقاف الحرب. فالفترة الانتقالية الأخيرة اختبرت تحالف الحد الادنى الثوري بما فيه الكفاية، وكذلك بينت القصور في العمل النظري والتطبيقي للتحالف الجبهوي المركزي بعد انقسامه.
فنحن نعرف أنه عند مرحلة ما بعد ثورة أكتوبر تكاثرت المطامع الحزبية، وتعثر الحلم الديموقراطي، وتلاشى بالانقلاب ريثما. وهكذا أعدنا إنتاج الفشل المماثل في الديمقراطية الثالثة حين عجز التجمع الوطني الديمقراطي من تنفيذ شعارات الانتفاضة الجوهرية، وفي أعقاب ثورة ديسمبر شاهدنا الاستمرار في نهج التكتل الجماعي والفردي الذي عوق حكومة حمدوك الأولى. وعند الثانية لاحظنا كيف أن التحول من ما عديناه حكم التكنوقراط إلى حكم الأحزاب قد عوق كفاءة الجهاز التنفيذي، وانتهت المحاصصة إلى التخلي عن بعض أهداف الثورة، وكثرت الاستجابة للابتزاز الكيزاني.
ولما طُبقت اتفاقية جوبا تبلور تكتل جديد أضعف المكون المدني، وتعالت من ثم سقوف المكون العسكري للانقضاض على الثورة. بعد الحرب وجدت بعض مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير في تقدم بديلاً للتخلص من تحالفها الأول. وبالتالي صار اسم تقدم يشير إليها ضمنياً مع إضافة لمنظمات المجتمع المدني المؤمنة بالتغيير وفقاً لقناعاتها. وقد سعت الأحزاب الرئيسية لتقدم لوراثة دور المكون المدني، والجذريين، وما اصطلحنا عليها بحركات الكفاح المسلح التي انضمت للمكون العسكري.
ومع ذلك اعترضت تقدم عوائق سياسية ذاتية وموضوعية جعلتها عاجزة عن سد الفجوة في الدور المدني أثناء الحرب، وغاب الوصول إلى توافق سياسي مع بقية القوى المدنية التي رفضت القناعة بأهمية الاتفاق الإطاري الذي سبق الحرب، وعليه تصعبت فرص توحيد جبهة قومية قوية لاستقطاب الرأي العام وتوظيف طاقته ضد الحرب.
زيارة وفد التنسيقية بقيادة حمدوك للندن يعد التحرك الدولي الأبرز بعد آخر تحرك إقليمي تمثل في زيارة مصر، والاستجابة لفكرتها القاضية بجمع تقدم مع الكتلة الديمقراطية. وفي المسافة الزمنية بين ذلك التحرك الإقليمي، وهذا الدولي الجديد، تشعبت حرب السودان، وتكاد تصل الآن إلى حرب أهلية مكتملة الأركان. ذلك بخلاف أنها زادت في أرواح القتلى المدنيين، والعسكرين، وعمقت المعاناة الإنسانية للسكان، والنازحين، واللاجئين، وأهاليهم في المهاجر أضعافا أضعاف.
أي أن آلة الحرب صارت أمضى من أي تأثير لميكانيزم سياسي أو إعلامي مرافق للقتال. وهاهنا لاحظنا أن الرأي العام المعارض لم يسهم على الإطلاق في تعطيل هيجان الحرب. ومن الجانب الآخر لم يمتلك الرأي العام المؤيد للفريقين القدرة على تحقيق انتصار ساحق ضد بعضهما بعضاً.
من الصعب أو قل من غير الموضوعي تحميل تقدم، أو حمدوك، المسؤولية في الفشل في خلق أي اختراق لإيقاف الحرب في تحركاتهم المحلية، أو الإقليمية، أو الدولية.
فنحن نعرف مسبقاً أن تقدم فصيل من فصائل المدنيين الذين فرقهم الاتفاق الإطاري، وجعلهم شذراً مذراً. وجاءت الحرب لتورطهم في خلافات، واتهامات، وعداءات، نلحظها في تصريحات بعض القياديين، وكذلك بين سطور الناشطين المدنيين. ومع كل ذلك فإن تحركات تقدم السلحفائية، وحضور قياداتها المتباعد على مستوى الميديا على كثرتهم يعد سبباً من أسباب قلة الثمرات في العمل غير الدؤوب لتقدم.
إن غياب حمدوك عن الإعلام، وتفضيله الصمت على تحولات الحرب، وظهوره فقط لتلاوة البيانات التقريرية الطابع لتذكير الناس بثورة أكتوبر، ثم الغياب مرة أخرى، لا يعد أمراً مساعداً في تفعيل قيادة هذا التنظيم.
فعند المقارنة بين ظهور حمدوك من جهة، وحميدتي والبرهان من جهة أخرى نجد أنهما لا يغيبان كثيراً في الظهور الإعلامي. فحمدوك الذي اختارته القوى الثورية ينبغي أن يشكل حضوراً أسبوعياً عبر أحاديث، وتصريحات، ومؤتمرات صحفية، تخاطب الشعب السوداني المنكوب يومياً، وهو ذا الذي يريد قيادته إلى بر الأمان.
أما من الناحية الإعلامية فإننا ندرك أن الحرب لا تدور فقط في الميدان فإنها حرب الرؤى التي أعدت لها الأطراف الثلاثة المتقاتلة جيداً، وتديرها غرف إعلامية إما لكسب الرأي العام، أو تغبيش معرفته ووعيه بمجريات الحرب.
صحيح أن الإمكانيات المادية لتنظيم تقدم لا تسمح بوجود قنوات فضائية مثل التي يمتلكها الجيش والحركة الإسلامية، وغرف إعلامية مؤسسة للدعم السريع.
ولكن لابد من استنباط أفكار لترقية العمل الإعلامي الذي يوثر في الرأي العام، ويجعل تقدم حاضرة طوال اليوم، بل كل ساعة في المنصات الإعلامية.
ليس كافياً الاعتماد على الناطقين الرسميين لتقدم والذين مع عظم مساهمتهم الفردية لا يستطيعون إجراء كل اللازم الإعلامي. بل لاحظنا أنه لا يوجد فريق عمل مسمى لقيادة مجهودات إعلامية نشطة، وفاعلة لتقدم في الميديا الحديثة، وهي المساحة الوحيدة التي كان يمكن أن تنافس فيها الكوادر الإعلامية للتنسيقية المتحالفة.
نعلم أن الموتمر التأسيسي لتقدم ضم عشرات الإعلاميين، فوقا عن أن هناك عدداً هائلاً من الصحفيين والكتاب يقفون ضد الحرب رغم عدم انتمائهم للتنسيقية.
ونعلم أكثر أن معظم هؤلاء الإعلاميين لا يختلفون حول ضرورة إسهامهم في المشاركة في أي عمل إعلامي يوقف الحرب، ويحاصر رسالة الداعين لها، سواء كان هذا العمل قد ابتدرته تقدم، أو تحالف الجذريين، أو جهات مستقلة حزبياً.
فالمهم لدى الإعلاميين المناصرين للديموقراطية هو المساهمة لتوسيع قاعدة الرأي العام الذي يريد وضع نهاية للحرب عن طريق التفاوض.
ومثلما أن هناك منظمات مجتمع مدني يعتمد قادتها من اليمينيين واليساريين على المنظمات الخيرية المانحة بغير شروط لدعم مشاريع ديموقراطية، وحقوقية، وطبية، وخدمية، نرى أن تقدم تستطيع من خلال علاقات حمدوك الجيدة بالعالم استقطاب الدعم.
ذلك الذي يؤسس لابتكار مشاريع إعلامية تستهدف الدعوة لإيقاف الحرب، وتقديم طرح إعلامي رصين يدفع المشروع الديموقراطي السوداني للأمام، ويساهم كذلك في محاربة الأفكار المتطرفة.
استمرارية ظهور قادة تقدم الكثيرين في الميديا الحديثة بصرف النظر عما يتفق معهم الرأي العام أو يختلف حول تصريحاتهم يساعد في تأكيد فاعلية التنظيم. كما أن الاستفادة من القبول الذي تحظى به تقدم في بعض الدوائر الأوروبية والأميركية المستقلة وطلب عونها الخيري لتأسيس قناة فضائية، أو راديو، أو منصات إعلامية في الوسائط الحديثة، يساعد أيضاً في إبراز رسالة إعلامية مناوئة لاستمرار الحرب.
إن أي خطوة لتقدم تنحو إلى إيقاف الحرب ينبغي أن تجد التشجيع، سواء اختلف الناس معها أو اتفقوا. فهي تمثل ذراعاً مدنياً مهماً يعبر عن قطاع عريض من قاعدة الثورة. والأمل أن تضاعف جهودها السياسية والإعلامية لهزيمة خطاب استمرارية الحرب، وكذلك عليها ألا تقنع في توسيع قاعدتها لصالح إيقاف الحرب.
الهجوم الأرعن الذي تعرض له وفد تقدم بقيادة حمدوك في العاصمة البريطانية من القوى المؤيدة للحرب، والذي وصل إلى محاولة إيذاء أعضاء الوفد جسدياً، دليل على سير تحرك التنسيقية في الاتجاه السليم.
ومن الجهة الأخرى اتضح أن هذا الهجوم يعبر عن هدف الحرب الاستراتيجي المحموم لإسكات جانب من صوت الثورة، وعزله. إن دائرة هذا الاستهداف الكيزاني والبلبوسي لا تقف عند حدود قمع حركة تقدم بوصفها عنصرا مهماً عند فترة ما بعد إيقاف الحرب، واستئناف العملية السياسية.
إنها دائرة سوف تدور يوماً لتشمل الإخوة الجذريين، والقطاعات السياسية المعارضة لتقدم، وحتى أنصار الحركات المسلحة، والديمقراطيين المناصرين لاستمرار القتال.
فغاية الحرب التي أشعلتها الحركة الإسلامية إنما هي موظفة لإعادة إنتاج المشروع الحضاري بطريقة جديدة، وإنهاء مظاهر ثورة ديسمبر، وشيظنة رموزها، ومحوهم من الساحة السياسية، سواءً بالقتل المعنوي، أو بالرصاص. وتلك أمانيهم، وإن لم تستوعبها بها فأنت مجرد مغفل نافع.
المصدر: صحيفة الراكوبة