جيّاشة ودعّامة جمعتم مطرة وفرتقتم هبوب
جيّاشة ودعّامة جمعتم مطرة وفرتقتم هبوب
خالد فضل
المليشيا نوعان؛ نوع تصنعه الحكومات وآخر تصنعه الضرورات وفي تجربة السودان ثراء ما بعده ثراء في إنتاج المليشيات المسلحة، نظرة خاطفة على خارطة الحياة العامة في البلاد تصطدم مباشرة بلغم مليشياوي، والعهد الغيهب كما في وصف المرحوم د. منصور خالد لحقبة الإنقاذ تكفيك، خاصة فيما يتعلق بالمليشيا ماركة الحكومة، فمنذ مطالع التسعينات من القرن الماضي تم تأسيس مليشيا الدفاع الشعبي، وأجيز لها قانون من تشريعي الإنقاذ، وحشدت لها الحشود من منتسبي تنظيم الجبهة الإسلامية في نواة التكوين، ثم تبعهم الجميع غصباً من منتسبي الخدمة العامة، وكانت الكتائب المليشياوية تتسمى بألقاب إسلاموية لإضفاء نوع من القداسة على متحركات التنظيم ذي الطبيعة العدوانية المسماة جهاد، ونسجت من الأساطير الأكاذيب حول كرامات تلك المليشيات ما صار مصدر سخرية وتندّر معظم الناس.
قبل الدفاع الشعبي كانت مليشيا المراحيل في مناطق التماس على تخوم الجنوب، قيل إنها لحماية رحلات الرعاة السنوية بين الشمال والجنوب، ولحماية القوافل التجارية وقطار بابنوسة أويل، وهي مليشيا قبلية تمت صناعتها أو على الأقل رعايتها بوساطة حكومة العهد الديمقراطي في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم برئاسة الإمام الراحل الصادق المهدي وتردد أنّ حاكم إقليم كردفان حينذاك السيد عبد الرسول النور كان عرّاب تلك المليشيا.
كان هناك الجيش الشعبي؛ وقوامه مليشيا صنعتها الضرورات النضالية لرهط من السودانيين اشتكوا في بلادهم من عسف السلطات وجور الحكومات فنفروا بالسلاح لإزالة التهميش وتحرير بلدهم من مفاهيم الاستعلاء والاستغلال وسوء الحال، وهي ذات الدوافع أوالمزاعم التي نبتت على وقعها مئات المليشيات في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان، في المقابل كانت الحكومة خاصة الإنقاذ تحرّض وتشجع على تكوين مليشيات من القبائل لتصد بها هجمات تلك الحركات المسلحة، وانتشر تبعاً لذلك حمل السلاح بين المواطنين في مناطق النزاعات، وسادت الثقافة المليشياوية بين السكان، وبات من الطبيعي أن يكون لكل قبيلة مليشيا، وبالتالي انفرط عقد احتكار الدولة لأدوات القمع الرسمية، وساد الهرج والمرج، وفي حرب دارفور سطع نجم المليشيات بصورة طغت فيها على الجيش الرسمي، حدث كل ذلك وقيادة الجيش الحالية في الخدمة تتدرج من رتبة لأعلى!!
لم يطرق مسامعي ربما لتقصير مني نبأ تذمّر من ضباط الجيش قدموه لقياداتهم الأعلى حول انتشار المليشيات المرعية حكومياً، لا عتب عليهم فيما يتعلق بتكوين مليشيا الضرورة، فهم لا يملكون من أمر تكوينها شيئاً، أمّا مليشيا الحكومة فهي صنيعتهم ومباركتهم، ولن يجديهم نفعاً اليوم أن يصفوا الدعم السريع بـ(المليشيا المتمردة).
كان بعض أفراد تلك المليشيات من النوعين يتم استيعابهم في الجيش فيترفعون في الرتب شأنهم شأن من احترفوا الجندية وعبروا من خلال الكلية الحربية، تلك الكلية العريقة التي أسست من أيام الاستعمار الإنجليزي /المصري، وتحكم الانتساب إليها ضوابط وشروط ظلّت مرعية نوعا ما إلى ما قبل سيطرة الجبهة الإسلامية على السلطة، ليختلط حابل تلك الشروط المهنية بنابل التزكيات والتوصيات والتدابير التمكينية الإسلاموية وبالنتيجة نشأت أجيال من الضباط المتنازعين بين الولاء للوطن والمهنية حسبما تقتضيه الضوابط وبين الالتزام بالتدابير والحيل الحزبية التي يفرضها عليهم التنظيم، وبالطبع سقط الكثيرون في الاختبار واختاروا طرق التنظيم الملتوية عوضاً عن صراط الوطن المستقيم فأصبحوا أدوات قهر حزبية (وابقى سلّم لي على علي كرتي!)، ليس كلهم بالطبع ولكن من المستحيل أن تنجو مؤسسة حكومية من أعراض مرض التمكين مهما تدرعت بدروع الوطنية، لم تنج مؤسسات التعليم العالي ولا الشؤون الدينية فكيف ينجو سلك الجندية؟
من أبرز المليشيات التي صنعتها حكومة الإنقاذ مليشيا الجنجويد التي ملأ اسمها آفاق العالم من أقصاه لأدناه، وارتبطت تلك المليشيا بالحكومة الإسلاموية ارتباطاً لم تنفك منه حتى قبيل سقوطها بقليل، وبفعل تلك المليشيا ومعها الجيش وصل ملف جرائم الحرب إلى منضدة المحكمة الجنائية الدولية وصار عمر البشير وأحمد هرون وعبد الرحيم محمد حسين وعلي كوشيب على رأس قائمة المطلوبين للمثول أمامها، بعد أن أحال مجلس الأمن الدولي الملف إلى مدعي عام المحكمة وكان وقتها السيد أوكامبو!
الآن يمثل السيد كوشيب أمام قضاة المحكمة؛ وهو زعيم مليشيا من صنائع الحكومة، ومثل أمامها من قبل وتمت تبرئته من التهم السيد بحر إدريس أبو قردة القيادي في إحدى مليشيات الضرورة التي سبق وصفها في هذا المقال.
وفي خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أورد قائد الجيش وقائد انقلاب 25 أكتوبر الفريق في الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ضمن حيثيات طلبه بإدراج قوات الدعم السريع كمنظمة إرهابية، أن من ضمن جرائم تلك المليشيا فتح السجون وفرار المحبوسين والمحكومين ومن بينهم بعض المطلوبين للعدالة الدولية (المحكمة الجنائية الدولية)، وفي هذا البند تحديداً يلحظ المرء أن تناقضاً فظيعاً قد وقع فيه السيد البرهان، فهو يقدم خطابه باعتباره رئيس الضرورة للبلد فلماذا لم يسلم المطلوبين للمحكمة قبل يوم إطلاق سراحهم بوساطة المليشيا المتمردة كما يصفها خطاب الجيش ومن يؤيدون الحرب الراهنة.
مليشيا الدعم السريع نشأت وترعرعت وشبت عن الطوق في كنف الذين يحاربونها الآن، وخرجت من رحم القوات المسلحة كما يقول قائد القوات المسلحة (بعضمة لسانو) وأجاز قانونها المجلس الوطني تبع حزب المؤتمر الوطني مثلما أجاز قانون القوات المسلحة ذاته، وصارت هي القوة الضاربة لمطاردة مليشيات الضرورة الآنف ورودها في المقال، وأفردت الحوارات الإعلامية والتسويق الدعائي للسيد حميدتي قائد مليشيا الدعم السريع، بل سبقته زغاريد بعض سيدات الحكومة ذات مرّة!! مثلما أفسحت مجالات التجارة والاستثمارات تبع الدعم السريع ضمن هيمنة منظومة الاستثمارات العسكرية؛ تلك التي تستحوز على أكثر من 80%من الحركة الاقتصادية في البلاد وفق ما صرّح به الخبير الاقتصادي، رئيس الوزراء الانتقالي د. عبد الله حمدوك، فكان رد قائد الجيش قاسياً، متهماً حمدوك وحكومته بالفشل!! قبل أن ينقلب عليه لاحقاً، بمثل ما انقلب فيما بعد على خدنه ونائبه في المجلس السيادي، وصار ينعته وقواته بكل منكر من الفعل، ويستغرب المرء حقاً إن كانت تلك الصفات المشاعة في ذم الدعم السريع قد ولدت يوم 15 أبريل 2023م أم كانت ملازمة له مذ كان في رحم القوات المسلحة ينمو ويكبر ويتغذى بحبلها السري!!
من الواضح أن الدعم السريع وقائده قد بدأ يتخذ مواقف أكثر استقلالية مما هو مسموح له في عُرف التنظيم الإسلاموي. جاءت الهبوب لتفرق الشمل ببروز فرضية خروج الجيش والدعم السريع من السلطة، كيف يخرج من أدمنوا السلطة واحتكروا الموارد ونبت لحم معاشهم من ريع تلك المنظومات، ولعل جريرة حميدتي لسانه الذي صار في الآونة الأخيرة يهرف بعبارات على شاكلة الوفاء بالعهد، والالتزام بما أبرم، وبأن قضيته ليست مع الجيش بل مع (المكنكشين) في السلطة، تلك هي بعض الهبايب التي فرتقت القوم وما خفى من أمر تلك الريح الصرصر العاتية أعظم، وستأتي لحظة الحقيقة طال الزمن أو قصر الأهم الآن أن تتوقف الحرب فوراً في كل أنحاء السودان، بدوافع إنسانية أولاً، ومن ثمّ الشروع في تفاوض جاد وملزم قوامه قوى الثورة وقوى الانتقال المدني الديمقراطي دون عزل أو تمييز، وليكن قادة الجيش أنفسهم من المشمولين بالحوار من أجل الوفاء بالعهود والالتزام بالخروج نهائياً من العملية السياسية والتفرغ لتكوين جيش وطني مهني محترم مثل الجيوش في البلدان الديمقراطية يكون تحت إمرة السلطة المدنية، وتتم معالجة كل الذرائع التي تقوم عليها المليشيات الحكومية ومليشيات الضرورة.
المصدر: صحيفة التغيير