جيش المستعمر والكيزان
بعد اندلاع ثورة اللواء الابيض ١٩٢٤، عقب مقتل السير لي استاك الحاكم الانجليزي العام للسودان في مصر، قرر الاستعمار البريطاني تكوين قوة عسكرية جديدة نظامية للسودان بعيدة عن المصريين، فكان تكوين قوة دفاع السودان، التي اصبحت لاحقا الجيش السوداني.
بعد ان حقق السودان استقلاله، كان يجب ان يعاد النظر في هذا الجيش الموروث من المستعمر، فالسودان هو تقريبا الدولة الوحيدة التي ورثت جيشا عن المستعمر، ولأن الجيش ليس كغيره من بقية المؤسسات، فهو مؤسسة حساسة، كان يجب ان يعاد النظر في هذا الجيش، خاصة وان التمرد الذي حدث في عام ١٩٥٥ ابان الحكم الذاتي، قادته فرقة من دفاع السودان في الجنوب، كذلك تمردت الكتيبة ١٠٥ للجيش في عام ١٩٨٣ وأصبح تمردها نواة لتمرد جون قرنق وحركته الشعبية، الذي انتهي بانفصال الجنوب.
الفريق ابراهيم عبود، الذي ترقى حتى قمة قيادة الجيش في عهد الاستعمار، كان اول انقلابي يحكم السودان، ثم تناسلت الانقلابات من العساكر، النميري، البشير، ثم اخيرا البرهان.
كان يمكن ان تعتبر هذه الانقلابات الاربعة، حوادث معزولة لا تمثل الجيش بكامله، لكن عدم قيام بقية ضباط وجنود الجيش بأي ردة فعل ضد الضباط الانقلابيين، اثبت ان عقلية الانقلابيين وعقلية بقية عناصر الجيش السوداني متشابهة، عقلية انقلابية، غير منضبطة، لا تؤمن بحكم الشعب ولا سيادة الدستور، بل تؤمن بأن الجيش هو الوصي، والعسكر هم من يجب ان يحكم السودان.
بعد انقلاب يونيو ١٩٨٩، اضاف الكيزان لعقلية جيش المستعمر، عقلية ايدولوجية دينية متطرفة، وحولوا هذه النواة الخربة اصلا، الى نواة فاسدة بالكامل.
جرت محاولات لاصلاح الجيش في العهود الديمقراطية الثلاث، ولكنها لم تجد الوقت الكافي لتؤتي أكلها.
بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨، وثق قادة الثورة من المدنيين في الجيش ليقوم بالاصلاحات اللازمة لتحوله لجيش وطني، لكنه خان هذه الثقة، لم يقم بالاصلاحات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، بل وانقلب على المدنيين وزج بهم في السجون.
عاد المدنيون مرة اخرى لاصلاح الجيش ومعالجة خلل وجود جيشين في البلد، وقدموا رؤية إصلاحية شجاعة ومتقدمة عبر الاتفاق الاطاري، لكن الجيش تراجع عنها، ثم قامت مجموعة كيزانية بإشعال الحرب، لقطع الطريق على هذا الإصلاح.
كل الحروب في السودان حدثت وتعمقت اثناء الحكومات العسكرية، وليس الديمقراطية، حرب انانيا تعمقت في عهد عبود، تمرد جون قرنق حدث في عهد النميري، تمرد حركات دارفور تم في عهد البشير، حرب الدعم السريع تمت في عهد البرهان.
هذا السرد يثبت ان الجيش:
فشل في حماية حكم الشعب والدستور، وبل انقلب عليها.
فشل في إدارة البلد بعد الانقلابات، وادخل البلد في الحروبات والانفصال.
عليه، الحديث عن إصلاح جيش استعماري، كيزاني، انقلابي فاسد وفاشل، هي محاولة محكوم عليها بالفشل.
الطريق الوحيد الذي اصبح متاحا للسودانيين للحفاظ على دولتهم وايقاف الحروب الى الابد، هو تغيير هذا الجيش بالكامل، تغيير عقليته الاستعمارية، وروحه الكيزانية، واعادة بناءه من جديد، المهم ان يكون هذا البناء ضمن بناء وطني شامل، يؤطر له بعقد اجتماعي جديد، يؤسس لوحدة وطنية بين شعوب السودان، أساسها التعايش وليس الكراهية، وعنوانها العدالة والحرية والسلام.
يوسف السندي
المصدر: صحيفة الراكوبة