عبد الماجد سعيد عرمان

وما يجري في السودان اليوم ليس بعيدًا عن هذا المسار العالمي. إنه نسخة محلية من المأزق الإنسانوي ذاته: خطابٌ يتزيّا بشعارات العدالة والحرية وحقوق المواطن، لكنه في جوهره سلطة تتحدث باسم الإنسان لتخنق الإنسان ذاته.

غير أن الوجه الآخر للتاريخ لم يكن غائبًا.
ففي ثورة ديسمبر السودانية تخلّقت إنسانية من نوعٍ مختلف، إنسانية خرجت من رحم الألم لا من كُتب الفلاسفة، ومن التجربة لا من التنظير.
في شعاراتها الثلاثة حرية، سلام، وعدالة انبعث الإنسان من بين الركام ككائنٍ يرى في الآخر امتدادًا لذاته، لا خصمًا لها.
هناك، في الشوارع التي واجهت الرصاص بالعزم والغناء، ولدت إنسانيةٌ تُعيد تعريف الوطن لا بوصفه حدودًا، بل بوصفه تعايشًا يقوم على الاعتراف المتبادل.

لقد بدت ديسمبر كأنها الردّ الأخلاقي العميق على كل أشكال الإنسانوية الزائفة التي عرفها السودان والعالم من قبله. فهي لم تُرفع باسم العِرق أو الدين أو الجهة، بل باسم الإنسان نفسه الإنسان الذي يطالب بحقه في أن يُرى، وأن يُحترم، وأن يُعاش لا أن يُدار.
تلك اللحظة لم تكن تمرّدًا سياسيًا فحسب، بل كانت يقظةً فلسفية: عودة الوعي إلى أصله الإنساني، إلى القاسم المشترك الذي يجعلنا بشرًا رغم اختلاف المصائر.

إنها إنسانية سودانية تتخلق من المعاناة اليومية، من صدق الرغبة في الحياة، ومن الإيمان بأن الكرامة لا تُمنح بل تُصنع. إنها نواةٌ لوعيٍ جمعي جديد يرى أن الحرية ليست شعارًا سياسيًا بل تجربة وجودية، وأن السلام لا يُفرض بالاتفاقات، بل يُزرع في ضمير المجتمع حين يرى الإنسان في المختلف وجهًا آخر لنفسه.

منذ بدايات الحركة الإسلامية السودانية، رفعت الشعارات ذاتها التي رفعتها أوروبا في زمن استعمارها: تحرير، عدالة، هوية، كرامة. لكنها انتهت إلى إعادة إنتاج الوصاية ذاتها التي ادّعت أنها جاءت لتحطيمها. احتكرت تعريف الإيمان والهوية والمواطنة، ومنحت إنسانية مشروطة لمن يوافقها، وسلبتها عمّن يخالفها.
تحوّل الخطاب الديني السياسي إلى إنسانوية مغلقة، ترى الإنسان من خلال فكرها لا من خلال إنسانيته.

وفي كل فترة من الصراع السوداني، يتكرّر المشهد نفسه: كل طرف يعلن أنه يقاتل باسم المواطن، ويدافع عن الكرامة الوطنية، لكن الواقع أن المواطن الحقيقي هو أول الضحايا.
فالحروب لا تُخاض من أجل الإنسان بل من أجل السلطة التي تزعم تمثيله. يتحول المواطن إلى رمزٍ دعائي، إلى شعارٍ يُرفع فوق الركام، بينما يُسحق الجسد الذي يمثله.
هكذا تُعاد مأساة الإنسانوية الاستعمارية نفسها بوجه محلي: كما تحدّث الأوروبي عن الإنسان ليبرّر غزوه، يتحدث السياسي والعسكري اليوم باسم المواطن ليبرّر حربه.

لقد صار الخطاب الإنساني في السودان، كما في كثير من بلدان الجنوب، ديكورًا أخلاقيًا للسلطة. الكلمات التي وُلدت لتواسي صارت أسلحةً في يد من يُفترض أنهم الحماة. من يتحدث عن المواطن وهو يقصف بيته، ومن يرفع شعار العدالة وهو يزرع الرعب، هو الامتداد الطبيعي لتلك الإنسانوية التي تدّعي الدفاع عن الإنسان وهي تنفيه من الوجود.

ولعل البداية الحقيقية للخلاص أن نعترف بهذا العمى.
أن نفهم أن الإنسان ليس فكرة مجرّدة تُستدعى في خطابات السياسيين والمثقفين، بل وجهٌ محدّد، وجسدٌ جائع، وطفلٌ خائف، وامرأةٌ تحمل العالم في صمتها.
الإنسانوية التي نحتاجها ليست شعاراتٍ تُكتب، بل وجدانًا يوميًا يرى الإنسان في كل من نختلف معه، ويؤمن أن الوطن لا يُبنى بالانتصار على الآخر، بل بالاعتراف بإنسانيته.

إن الإنسانوية التي تبدأ من الألم لا تحتاج إلى تبرير. هي وعيٌ هشّ، لكنه صادق، يرى أن الحقيقة لا تسكن في المنتصرين بل في الذين يواصلون البحث عن معنى للكرامة وسط الخراب.
وربما هنا، في قلب المأساة، يمكن أن تُولد إنسانوية سودانية جديدة، متصالحة مع ضعفها، متواضعة أمام التجربة، لا تدّعي امتلاك الإنسان بل تنصت له.

في هذا العالم الممزّق بين الخطاب والسلاح، بين الكلمة التي تُقال والإنسان الذي يُباد، يبدو أننا نعيش زمن العدم الإنساني زمنٌ تتكاثر فيه الأصوات وتتضاءل فيه الأرواح.
صرنا نحمل شعارات الكرامة كما يحمل الجندي سلاحه، لا حبًّا في النجاة بل خوفًا من السقوط.
كلّ شيءٍ يُدار باسم الإنسان، لكنّ الإنسان ذاته يضيع في الزوايا المظلمة من المدينة، وفي الخنادق، وفي نشرات الأخبار التي تمرّ عليه مرور العابرين.

ليس العدم نفيًا للوجود فحسب، بل هو غيابه تحت ضجيج الخطابات التي تزعم الدفاع عنه.
العدم هو حين لا يعود الألمُ خبرًا، ولا الجوعُ مأساة، ولا الموتُ مفاجأة. هو أن تفقد البشرية دهشتها أمام ما يُفترض أنه لا يُحتمل.

ومع ذلك، يبقى في الإنسان شيءٌ عصيّ على الفناء قبسٌ صغير من المعنى، يرفض أن يُطفأ.
في كل أمٍ تبحث عن ابنها، في كل شابٍ يحلم رغم الركام، في كل عينٍ ما زالت ترى الجمال في الخراب، هناك ولادة خفية لإنسانوية جديدة.
إنسانوية بلا شعارات، بلا وصايا، بلا مركزٍ يدّعي احتكار الإنسان.

وربما يكون خلاصنا الأخير في هذا الهشيم، أن نتذكّر ما قاله فانون:

“إن الإنسان لا يولد في الكتب، بل في التجربة.”

وأن نفهم أن التجربة السودانية بكل جراحها ليست سقوطًا في العدم، بل احتمالًا دائمًا لبعثٍ آخر،
حيث لا يعود الإنسان موضوعًا للخطاب، بل ذاتًا تُنقذ نفسها بالوعي، بالحب، وبإصرارها على أن تكون ببساطة إنسانًا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.