المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا: جدلية العدالة والسيادة وتجربة السودان نموذجًا
محمد تورشين *
تُعدّ تجربة المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا منذ دخول ميثاق روما حيز التنفيذ في عام 2002 من أكثر التجارب القانونية والسياسية إثارةً للجدل، إذ تمثل المحكمة إحدى أهم المؤسسات القضائية الدولية التي أنشأها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بهدف محاكمة الأفراد المتورطين في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان، وهي أخطر الانتهاكات التي عانت منها البشرية في تاريخها الحديث.
ما يميز المحكمة الجنائية الدولية هو منحها صلاحيات غير مسبوقة تخوّلها محاكمة كبار المسؤولين، بما في ذلك رؤساء الدول والحكومات أثناء وجودهم في السلطة، وهو ما جعلها في قلب صراع دائم بين مبادئ العدالة الدولية ومتطلبات السيادة الوطنية، خاصة في القارة الإفريقية التي تضم عددًا كبيرًا من الأنظمة السلطوية التي يصعب فيها إخضاع المسؤولين للمحاسبة القضائية.
لقد جاء ميثاق روما المؤسس للمحكمة ليملأ فراغًا كبيرًا في النظام القانوني الدولي، حيث نصّ على أن اختصاص المحكمة يكون تكميليًا لا بديلاً للأنظمة القضائية الوطنية، أي أنها لا تتدخل إلا عندما تكون الدول غير قادرة أو غير راغبة في إجراء محاكمات حقيقية.
كما منح الميثاق مجلس الأمن الدولي، بوصفه الجهة المسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين، صلاحية إحالة أي قضية إلى المحكمة حتى وإن لم تكن الدولة المعنية طرفًا في الميثاق، وهو النص الذي شكّل مدخلًا مهمًا لتدخل المحكمة في قضايا مثل دارفور في السودان.
منذ بدء عملها، كانت القارة الإفريقية الساحة الأبرز لتجارب المحكمة الجنائية الدولية، إذ تركزت معظم قضاياها الأولى في إفريقيا، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة حول ما سُمي بسياسة “الانتقائية” أو “التركيز الإفريقي”، بينما يرى المدافعون عن المحكمة أن أغلب القضايا الإفريقية جاءت بناءً على إحالات رسمية من حكومات تلك الدول أو من مجلس الأمن الدولي.
كانت أوغندا أول دولة إفريقية تُحال قضيتها إلى المحكمة في عام 2003، بعد أن طلبت الحكومة الأوغندية تدخل المحكمة للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها “جيش الرب للمقاومة” بقيادة جوزيف كوني في شمال البلاد، حيث اتُهم كوني وعدد من قادته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، غير أن تنفيذ مذكرات التوقيف ظل معلقًا بسبب استمرار فرار كوني حتى اليوم.
أما في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد شكلت تجربة المحكمة هناك واحدة من أنجح النماذج الإفريقية، إذ تمت محاكمة القائد الميليشياوي توماس لوبانغا عام 2012 بتهمة تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة، ليكون أول حكم يصدر عن المحكمة منذ تأسيسها، كما تمت إدانة كل من جرمان كاتانغا وبوسكو نتاغاندا في قضايا مشابهة، مما عزز من مكانة المحكمة كآلية فاعلة لتحقيق العدالة الدولية.
وفي ساحل العاج، تدخلت المحكمة عقب أعمال العنف التي تلت الانتخابات الرئاسية لعام 2010، حيث أُحيل ملف الرئيس السابق لوران غباغبو وزوجته سيمون غباغبو ونائبه شارل بل غودي إلى المحكمة بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقد أُدين بعضهم بينما بُرئ غباغبو لاحقًا، مما أثار نقاشًا واسعًا حول حدود تدخل المحكمة في الأزمات السياسية الداخلية.
أما في كينيا، فقد أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق الرئيس الأسبق أوهورو كينياتا ونائبه ويليام روتو على خلفية أحداث العنف التي أعقبت انتخابات عام 2007، غير أن التهم أُسقطت لاحقًا بسبب ضعف الأدلة وعدم تعاون الحكومة، وهو ما كشف عن الصعوبات التي تواجه المحكمة في إنفاذ قراراتها عندما تغيب الإرادة السياسية.
وتظل حالة السودان من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارةً للجدل في مسار المحكمة، إذ على الرغم من أن السودان لم يوقّع على ميثاق روما، فإن مجلس الأمن الدولي أحال ملف دارفور إلى المحكمة في عام 2005 بموجب القرار 1593 استنادًا إلى سلطاته في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بعد أن عجز القضاء السوداني عن محاسبة المتورطين في الجرائم التي شهدها الإقليم منذ عام 2003. وبناءً على ذلك، فتحت المحكمة تحقيقات واسعة أفضت إلى إصدار مذكرات توقيف بحق عدد من كبار المسؤولين، من بينهم الرئيس السابق عمر البشير ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين ووالي كردفان السابق أحمد هارون، إضافة إلى القائد الميليشياوي علي كوشيب الذي أُدين مؤخرًا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أول حكم من نوعه ضد شخصية سودانية بارزة.
تمثل إدانة كوشيب خطوة مهمة في مسار العدالة الدولية، إذ أكدت أن مرور الزمن لا يمنع من محاسبة الجناة، كما أعادت الأمل لضحايا دارفور الذين حُرموا لسنوات طويلة من الإنصاف بسبب محاولات النظام السابق التهرب من العدالة عبر إنشاء محاكم صورية أو إعادة دمج الميليشيات في أجهزة الدولة، مثلما حدث عندما تم تحويل قوات حرس الحدود إلى قوات الدعم السريع في عام 2013 تحت إشراف جهاز الأمن والمخابرات. غير أن استمرار الإفلات من العقاب لبقية المتهمين ما يزال يمثل تحديًا أمام مصداقية المحكمة وقدرتها على تنفيذ قراراتها في ظل غياب التعاون الكامل من السلطات السودانية.
ورغم الانتقادات الموجهة إلى المحكمة الجنائية الدولية من حيث الانتقائية وتسييس العدالة وضعف آليات التنفيذ، إلا أنها تبقى من وجهة نظر الكثيرين أداة ضرورية لمواجهة الإفلات من العقاب، خاصة في الدول التي تعجز فيها الأنظمة القضائية الوطنية عن القيام بواجبها.
وفي الحالة السودانية، فإن استمرار التعاون مع المحكمة يعد ضرورة لتحقيق العدالة لضحايا الحرب في دارفور وغيرهم، خصوصًا في ظل هشاشة مؤسسات الدولة واستمرار النزاعات المسلحة. كما يمكن للسودان أن يستفيد من تجربة المحاكم المختلطة التي أثبتت نجاعتها في دول مثل سيراليون وكمبوديا، والتي تجمع بين الاختصاص الدولي والوطني بما يعزز من مصداقية العدالة ويضمن احترام السيادة الوطنية.
إن تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية في السودان إلى جانب التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية يمثل خطوة أساسية نحو بناء دولة القانون، وترسيخ ثقافة المساءلة، وتمكين الضحايا من نيل حقوقهم.
كما أن فتح تحقيقات جدية في الجرائم المرتكبة منذ اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 سيُعد اختبارًا حقيقيًا لمدى استعداد السودان للالتزام بالعدالة الدولية، وتمهيدًا للانتقال من مرحلة الفوضى والعنف إلى مرحلة العدالة والمصالحة وبناء السلام المستدام. فالمحكمة الجنائية الدولية، رغم كل ما يؤخذ عليها، تظل أملًا لضحايا الانتهاكات في القارة الإفريقية، ومنصة لإحياء فكرة أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت.
* باحث وكاتب في الشؤون الأفريقية
المصدر: صحيفة التغيير