جان بول سارتر روى في “الكلمات” سيرة لئيمة عن طفولته
“كنت في البداية طفلاً، كنت ذلك الوحش الذي يصنعه الكبار وهم آسفون كل الأسف”. بمثل هذه العبارة يعرف جان بول سارتر نفسه وطفولته في واحد من أطرف كتبه، كتاب “الكلمات” الذي أنجزه ونشره في عام 1994، وهو في قمة مجده، محاولاً فيه أن يكتب نوعاً من السيرة الذاتية، تطاول سنوات طفولته وصباه. لقد قسم سارتر كتابه قسمين أساسيين، عنون أولهما “القراءة” والثاني “الكتابة”. ومن يقرأ صفحات هذا الكتاب يدرك السبب في هذين العنوانين. إذ إن سارتر فسر في القسم الأول، كيف أنه منذ طفولته المبكرة وحتى قبل أن يتعلم الكتابة بسنوات وجد نفسه محاطاً بالكتب، يقرأها وقد لا يفهمها، يغوص فيها إنما من دون أن يغرق، لكنه يحفظ منها ما سيكفيه لاحقاً ليشكل بالنسبة إليه مرجعاً ثقافياً أساسياً. ومن هنا نجده يقول في واحدة من فقرات هذا الكتاب، “لقد بدأت حياتي، كما سأنهيها على الأرجح: وسط الكتب، ففي مكتب جدي، كان ثمة كتب في كل زاوية ومكان. وكان من الممنوع على أي كان أن يدنو من المكتب أن ينفض الغبار عنه إلا مرة واحدة في كل عام، قبل العودة للمدارس”. ومن هنا كان يمكن لجان بول سارتر الصغير أن يتنزه بين الكتب، هو الذي كان في تلك السنوات، السابقة للحرب العالمية الأولى، يعيش في بيت جده، بعد وفاة أبيه. وهذا الجد كان هو، بالطبع، والد ألبرت شفايتزر، الطبيب الذي قدم لأفريقيا من الخدمات الإنسانية ما استحق عليه جائزة نوبل للسلام، وشفايتزر هو خال سارتر وسيكون مثلاً أعلى له. غير أن هذا لن يمنعه من أن يجعل للكتب مقاماً أولاً في تفكيره، قبل البشر وقبل ألبير شفايتزر. وبصدد علاقته بالكتب يتابع سارتر قائلاً “في ذلك الحين لم أكن بعد، قد تعلمت القراءة، لكنني تعلمت تبجيل الكتب. كنت أراها مثل الحجارة المصقولة المرصوصة، سواء صفت جالسة أم منحنية. مكدسة إلى بعضها بعضاً فوق رفوف المكتبة، أم موضوعة بكل نبل بعيدة من بعضها بعضاً”.
طفل ووعي
غير أن علاقة سارتر، المولود في عام 1905، بالكتب، حتى وإن كانت هي الأساس، ليست كل شيء في الكتاب طبعاً. ففي الكتاب حكاية طفل وحكاية وعي. وربما تكون هذه الحكاية لمن سيتعرف عليها، درامية بعض الشيء، لكن الكاتب لا يدنو كثيراً من هذا البعد الدرامي. بل إن السخرية تغلب لديه. فهو على عكس معظم الكبار الذين يكتبون واصفين طفولتهم، لا يبدو متعاطفاً مع الطفل الذي كانه، يبدو ساخراً منه، متواطئاً مع القارئ عليه، إنما بلطف شديد وتفهم. المهم بالنسبة إليه هو ألا يبدو مثل الآخرين تواقاً إلى تعظيم طفولته وإضفاء مسحة نبيلة عليها. كل ما في الأمر أن سارتر يقول لنا، في قسمي الكتاب سواء بسواء، إن تعلم القراءة ثم الكتابة كانا الحدثين الأكبر في حياته، هو الذي كان طفلاً ذا خيال واسع، وكان وحيداً في ذلك البيت الكبير، بين أهل أمه، آل شفايتزر، الذي انتقلت إليه الأم بعد ترملها. لقد مات والد سارتر وهو بعد في العام الأول من عمره فلم تجد الأم، التي كانت صغيرة السن إلى حد مدهش، غير بيت أهلها يحتويها والطفل. وكان سيد البيت مثقفاً عجوزاً، ذا لحية بيضاء يدرس اللغة الفرنسية للأجانب ولا سيما للألمان الذين يعيشون في باريس. كان يحلو لذلك الجد أن يلعب دور سادة الأسرة النبلاء الكبار، لكنه كان في حقيقة أمره مهرجاً. ولما كشف الطفل جان بول، عن سر الجد لم يتردد هذا من دون إحاطته بحنان كبير. وصار ثمة إعجاب متبادل بينهما إلى درجة أهلت جان بول لأن يصبح بدوره مهرجاً، لكنه كان أخرق في الوقت نفسه، يحاول أن يلعب دور الولد العاقل فلا يفلح.
الفشل والشغف الأولان
ولأن جان بول كان ولداً وحيداً كان الكل يعطف عليه، ويحاول أن يجعل منه كائناً اجتماعياً. أما هو فإنه، حين لا يكون مع جده، كان يحلو له أن يتسلل إلى المكتبة ويقلب الكتب. وهو بعد الكتب اكتشف القراءة التي وفرت له شغفاً عظيماً، جاراه فيه أخواله وجده، فتولوا توجيهه. وهكذا راح، هو يقرأ كل شيء. كل ما يقع تحت يديه، كل شيء يتراوح بين الكتب الكلاسيكية والكتب المصورة للصغار، وهو يصارحنا في “الكلمات” بأنه في سره، كان يفضل كتب الصغار المصورة، لكنه يقرأ الكتب الأخرى لإثارة إعجاب الآخرين به. وإلى جانب، الشغف بالقراءة، وقبل الشغف بالكتابة، عايش جان بول شغفاً آخر، شغفه بأمه، فهي إذ كانت لا تزال صبية حين ترملت، راح يعاملها وكأنها أخته الكبرى. صارت لديه بديلة للإخوة الذين لم يحظ بهم. وهو صار لديها بديلاً لكل الكائنات. ويفيدنا سارتر بأن هذه العلاقة الشغوفة مع أمه، أنتجت في عدد لا بأس به من كتاباته اللاحقة علاقات ملحوظة بين أخ وأخت، في “أسرى ألتونا” (فرانتز وليني) كما في “دروب الحرية” (إيفيتش وبوريس)، وفي “الذباب” (ألكترا وأورست)… إلخ.
اكتشاف الكتابة
لاحقاً وبعد أن اكتشف القراءة وصارت همه وحياته، ها نحن نجده يكتشف الكتابة. وها هو يروي لنا أنه، ما إن تعلم كيف يكتب، ولزمن طويل قبل أن يحسن حتى الإملاء ويدرس قواعد اللغة، راح يكتب روايات مغامرات طويلة أو قصيرة، مستوحاة دائماً من أبطال القصص المفضلة لديه. ويحلو له هنا أن يروي لنا كيف أنه كان يحب أن يأخذ شخصية معينة من رواية قرأها، ثم يضع هذه الشخصية وسط مغامرة جديدة محاصراً إياها بشخصيات مرعبة وأخطار مهلكة. أما مشكلته الكبرى في ذلك الحين وسيكتشف لاحقاً أنها، في نهاية الأمر، لم تكن مشكلة بل فضيلة، كما يقول لنا فهي إنه إذ كان طفلاً وحيداً يعيش في البيت الكبير من دون رفاق أو أصحاب من عمره، كان يعرف سلفاً أن الذين سيقرأون ما يكتب، إنما هم أفراد العائلة الكبار، مشجعوه الأول والأخيرون، ومن هنا كان يحرص وهو يكتب، أن يتصور أنه إنما يكتب من أجل هؤلاء الكبار، ومن هنا أيضاً كان يملأ تلك المواقف “البطولية” بحس كوميدي ساخر، يفضل أن يصنعه بنفسه على أن يسهم الآخرون في صنعه، لأنهم إن فعلوا كانوا سيسخرون منه هو الآخر. لذا فضل التواطؤ معهم على نفسه وأبطاله. فهلا يمكننا أن ننطلق من هنا في أية محاولة نقوم بها للعثور على الجذور الحقيقية للحس النقدي لدى جان بول سارتر، الكاتب والمفكر لاحقاً؟
الجواب هو: أجل، على الأرجح، غير أن ما يمكن التوقف عنده في هذا السياق أيضاً، هو ما يفيدنا به سارتر، في “الكلمات” من إدراكه أنه، خلال تلك الطفولة، وعلى رغم وحدته وعيشه بين الكتب والكلمات، قارئاً وكاتباً، كان أكثر احتكاكاً بالحياة الحقيقية منه في أية لحظة لاحقة من لحظات حياته، بل ربما يوحي إلينا بأن تلك الحياة كانت بالنسبة إليه، الحياة الحقيقية، عاشها بين بشر حقيقيين وسط مشاعر حقيقية. ولعل هذا ما يفسر الفقرة الأخيرة في الكتاب التي يقول فيها الكاتب: “إن ما أحبه في جنوني الذي كان ماثلاً في ذلك الحين وربما لا يزال حاضراً هو أنه وفر لي الحماية، منذ اليوم الأول، ضد إغراءات النزعة النخبوية. فأنا أبداً لم أحس في حياتي كلها أني المالك السيد لموهبة ما، كان كل غرضي طوال حياتي أن أخلص نفسي أنا الذي ما ملكت شيئاً بين يدي أو في جيوبي من طريق العمل والإيمان. وعلى هذا النحو شعرت أن اختياري الخالص لا يرفعني إلى أعلى من أي شخص كان، فأنا، إذ كنت أعرف أنني من دون مؤونة ومن دون عتاد، لا بد لي من أن أعمل وأعمل من أجل أن أحقق خلاصي”.
عاش جان بول سارتر بين 1905 و1980 واعتبر طوال القرن الـ20 المفكر والكاتب المرجع في فرنسا، وهو ألف في الفلسفة والنقد الأدبي والمسرح والرواية، وكان من مؤسسي الوجودية، والتزم سياسياً إلى جانب القضايا التي كان يراها عادلة، معبراً عن ذلك في عشرات الكتب والدراسات، كما في مجلة “الأزمنة الحديثة”. وحتى في نزوله، شيخاً جليلاً إلى الشارع متظاهراً حيناً، وبائع صحف اليسار حيناً آخر.
إندبندنت عربية.
المصدر: صحيفة الراكوبة