مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، “ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)”، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
[email protected]
قضية الجنوب والثورة: الجماهير والخروج من الذات لملاقاة الآخر
بالرغم من أن هناك عدة عوامل تداخلت في أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، منها: مصادرة الحكومة العسكرية للحريات الأساسية، وفشلها في معالجة المشاكل الاقتصادية والسياسية، وعدم ارتكاز الحكم على قاعدة شعبية، إلا أن أهم الأسباب، هي مشكلة الجنوب، التي كانت من أكبر مظاهر فشل الحكم العسكري. لقد أذكت مشكلة الجنوب ثورة أكتوبر، ومثَّلت أهم مغذياتها، وهي أعظم معالم التعدد الثقافي في السودان، وظلت كذلك ذريعة لكل الانقلابات العسكرية وحتى الانقلاب الأخير عام 1989. لقد وفر الجنوب شرارة الانفجار للغضب الشعبي ضد النظام العسكري، فعبرت الجماهير السودانية عبر الثورة عن رفضها لسياسة الحسم العسكري في الجنوب، واستعدادها للخروج من الذات لملاقاة الآخر. فقد كانت سياسة الحكم العسكري تجاه الجنوب قائمة على قهر وكبت المعارضة واعتماد مبدأ الحل العسكري. كما أُعلنت سياسة نحو الجنوب تقوم على فرض الإسلام واللغة العربية، إذ قام النظام العسكري من وراء الستار بتشجيع محاولات للتبشير الإسلامي غير مدروسة، كما اصدر قانون الجمعيات التبشيرية عام 1962 وطرد المبشرين بدعوى تدخلهم في شؤون السودان الداخلية وفي إذكاء الحرب الأهلية والصراعات الدينية بين المسلمين والمسيحيين. الأمر الذي ضاعف من معارضة الجنوبيين بوجه عام، ومن ثم هجر كثير من المستنيرين منهم الوطن إلى الأقطار الأفريقية المجاورة ليمارسوا نشاطهم السياسي. وازداد عدد اللاجئين الجنوبيين في يوغندا والكونغو وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى. واستطاعوا أن يؤسسوا هناك تنظيمات سياسية مستقلة. ونجحوا في تلقي إعانات مادية من الارساليات التبشيرية وتعاطفت معهم جماعات أخرى. وأخذ تنظيم اللاجئين السياسيين يدعو إلى فصل المديريات الجنوبية عن الشمال وتأسيس دولة مستقلة في الجنوب.
أدى تآمر الأحزاب السياسية، الذي أشرنا له في الحلقة الماضية، إلى الفوضى الدستورية والتلاعب في قانون الانتخابات. ولقد لخص الأستاذ محمود محمد طه مجمل الوضع عندما قال: “وما كان للأحزاب السلفية أن تبلغ ما أرادت لولا أن الثوار قد بدا لهم أن مهمتهم قد أنجزت بمجرد زوال الحكم العسكري، وان وحدة صفهم، قد استنفدت أغراضها”.
الشاهد أن الأحزاب التقليدية تمكنت، في سبيل تحقيق مصالحها الضيقة مع عدم الوعي أو عدم الرغبة في التغيير الشامل والجذري، من العبث بإرادة الجماهير ومبادئ ثورة أكتوبر، ففارقت أشواق الجماهير نحو التغيير في اتجاه انتصار الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي والتحول الديمقراطي. كما خلقت الأحزاب التقليدية حالة من الفوضى الدستورية، جاءت بكبوات كبرى سياسية وفكرية، فأسست لسوابق ظل السودان يعاني، ولايزال، من آثارها ونتائجها، بل قسمته وجعلته يعيش في مناخ من التشظي والتفتت.
خيانة مبادئ الثورة والكبوات الكبرى
الكبوة السياسية: حل الحزب الشيوعي السوداني
لقد تم حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه المنتخبين بعد سلسلة من الإجراءات تم بناء عليها تعديل الدستور “فقد عُدل الدستور مرتين للتمكين للحكم الطائفي في الاستمرار: مرة ليتمكن أزهري من أن يكون رئيساً دائماً لمجلس السيادة، في إطار الاتفاق بين الحزبين على اقتسام السلطة.. ومرة أخرى لحل الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية.. فقد عدلت الجمعية التأسيسية المادة 5/2 من الدستور، والتي تعد بمثابة روح الدستور.. وهي المادة التي تنص على الحقوق الأساسية، كحق التعبير، وحق التنظيم”. تقدمت الحكومة في جلسة 8 ديسمبر 1965 بمشروع قانون حل الحزب الشيوعي. وحددت جلسة يوم 9 ديسمبر موعداً للقراءة الثانية وقدم للقراءة الثالثة وأجيز في نفس الجلسة، ونشر بغازيتة حكومة السودان بتاريخ 9 ديسمبر 1965. رفع الحزب الشيوعي السوداني قضية إلى المحكمة العليا للطعن في قرار الحل وعدم دستوريته. “ولما حكمت المحكمة العليـا بعدم دستورية ذلك التعديــل (مجلة الأحكام القضائية 1968) أعلن رئيس الوزراء آنذاك، السيد الصادق المهدي، “أن الحكومة غير ملزمـة بأن تأخذ بالحـكم القضائـي الـخاص بالقضيــة الدستورية… فتعرض القضاء السوداني بذلك لصـورة مـن التحقيـر لم يتعـرض لـها في تاريخه قط!! ولما رفعت الهيئة القضائية مذكرة إلى مجلس السيادة تطلب فيها تصحيح الوضع بما يعيد للهيئة مكانتها (الرأى العام 27/12/1966) وصف مجلـس السيادة حكم المحكمة العليا بالخطأ القانوني (الأيام 20/4/1967). فاستقال رئيس القضاء السيد بابكر عوض الله، وقد جاء في الاستقالة: “إنني لم أشهد في كل حياتي القضائية اتجاها نحو التحقير من شأن القضاء، والنيل من استقلاله كما أرى اليوم.. إنني أعلم بكل أسف تلـك الاتجاهات الخطـيرة عنـد قــادة الحكم اليـوم، لا للحـد مـن سلطـات القضـاء في الدستـور فحسب، بل لوضعـه تحت إشـراف الهيئة التنفيذية” وهذه صورة ناصعة لفشل التجربة الديمقراطية في بلادنا، مما حولها إلى دكتاتورية مدنية إن قصور تجربتنا الديمقراطية مرده الأساسي إلى قصور الوعي وعي الشعب، ووعي القلة التي تحكم الشعب مما أفرغ مدلول كلمة الديمقراطية من محتواها.. هذا وفشل الديمقراطية في ظل البلاد المتخلفة أدى إلى الانقلابات العسكرية، في كل مكان، في النصف الأخير من هذا القرن وليس في الانقلابات العسكرية حل”.
تبع ذلك حل الجمعية التأسيسية وتمت الدعوة لانتخابات عامة مع استبعاد دوائر الخريجين التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي السوداني. وقدمت الحكومة حججا لذلك. يقول إبراهيم محمد حاج موسى: “إن هذه الحجج لم تكن الدافع لإلغاء دوائر الخريجين، ولكن الدافع الوحيد هو أن التجربة الأخيرة لدوائر الخريجين في انتخابات سنة 1965 أعطت الأحزاب السياسية درسا قاسيا وأظهرت مدى انصراف الخريجين عن هذه الأحزاب ومناصرتها، حيث لم ينل حزب الأمة أي مقعد في هذه الدوائر الخمسة عشرة، كما أن الحزب الوطني الاتحادي لم ينل إلا مقعدين، في حين حصل الحزب الشيوعي السوداني على 11 مقعداً. فخشية من أن يحتل الشيوعيون هذه المقاعد مرة أخرى، عملت الحكومة الإئتلافية على استبعاد دوائر الخريجين”.
وفي تناقض عجيب مع قرار حل الحزب الشيوعي، تأتي نتائج انتخابات عام 1968، فيفوز عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي في دائرة أم درمان جنوب ليكون نائبًا برلمانيًا عن دائرة جغرافية، وليست دائرة من دوائر الخريجين. ويسقط الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، في دائرة كوستي الجنوبية، ويسقط حسن الترابي، الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي، في دائرة المسيد.
من المهم الإشارة إلى أنه على إثر حادثة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، قامت أقوى محاولة لبناء سلطة المثقف، كان ذلك يوم أن وُلد “المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية”. كان تأسيس المؤتمر، فور إذاعة خبر قرار الجمعية التأسيسية (البرلمان) بحل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان، جاء النداء من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لعقد مؤتمر بدار الاتحاد لكافة المنظمات الديمقراطية تحت شعار “الدفاع عن الديمقراطية”. استجابت التنظيمات والهيئات، فوُلد في نوفمبر 1965 “المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية” والذي ضم 32 تنظيما ومنظمة. لقد كانت بحق هبة قوية من أجل بناء سلطة للمثقفين، وإن لم تأت ثمارها بعد.
الكبوة الفكرية: مهزلة محكمة الردة نوفمبر 1968
في نهار يوم الاثنين 18 نوفمبر 1968م، شهدت سماء الخرطوم ولأول مرة في تاريخ السودان، صدور حكم شرعي بردة مفكر إسلامي. صدر الحكم الشرعي من محكمة الخرطوم العليا الشرعية، وهي محكمة غير مختصة، حكمت المحكمة غيابياً على الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري بأنه مرتد عن الإسلام وأمرته بالتوبة عن جميع الأقوال والأفعال التي أدت إلى ردته. لقد صدر الحكم بالردة عن الإسلام، في حق الأستاذ محمود محمد طه، في ظل نظام ديمقراطي وبتحالف واسع بين الأحزاب التقليدية ورجال الدين والفقهاء والقضاة الشرعيين. وفي مفارقة عجيبة كان ثلث أعضاء مجلس الوزراء في حكومة ذلك النظام الديمقراطي من أوائل قانونيي السودان ومحامييه وقضاته. فقد تشكلت الحكومة من ثمانية وزراء من الحزب الاتحادي الديمقراطي وستة وزراء من حزب الأمة واثنين من جبهة الجنوب . كان مجلس الوزراء يتكون من ستة عشر وزيراً. كان محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، قد درس القانون وعمل قاضيا واشتغل بالمحاماة منذ أربعينيات القرن الماضي. وكان الشيخ علي عبد الرحمن الأمين، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، قد عمل بالقضاء الشرعي وكان وزيرا للعدل في الحكومة السودانية قبل الاستقلال. ومن الوزراء، إبراهيم المفتي، وزير الري والقوة الكهربائية المائية، الذي درس الحقوق وتم الاحتفاء به كأول محامٍ سوداني يتخرج في أول مدرسة للحقوق في السودان، والرشيد الطاهر بكر، وزير الأشغال والعدل، الذي درس القانون وعمل بالمحاماة، وعبد الماجد أبو حسبو، وزير الإعلام والشؤون الاجتماعية، والذي تولى وزارة العدل أيام المداولات بشأن الدستور الإسلامي، وهو أيضا درس القانون.
قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودان
شهد العام 1963 ميلاد التنظيم العسكري للأنيانيا القائم على فكرة المعارضة المسلحة. مع قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودان واندلاع الكفاح المسلح للشعب الأريتري بدأ التوتر والتأزم في العلاقات السودانية الإثيوبية. يضاف إلى ذلك أن أقاليم دارفور والبجة وجبال النوبة طالبت، بعضها منذ الخمسينات، بالتعبير عن ذاتها وتطلعاتها في اطار نظام إقليمي. فقد أفضى التخلف والإهمال والتوزيع غير المتوازن للسلطة والثروة إلى قيام جبهة تنمية دار فور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجة. مع تطور الأوضاع في هذه الأقاليم وبلوغ مشكلة الجنوب بحلول عام 1964 أبعادا خطيرة وجديدة، غدت وحدة القطر في خطر. كما اخذت القضية بعدا اقليميا، وقدرا كبيرا من التدويل. ساهمت كل هذه المعطيات في تغذية مناخ الثورة وخروج الجماهير.
كانت بداية الثورة في مساء 21 أكتوبر، حيث أقام طلاب جامعة الخرطوم ندوة لمناقشة تطورات الحرب الأهلية، فواجهت السلطات ندوة الطلاب بقوات شرطة الطوارئ بهدف إيقافها، ولكن الطلاب رفضوا وواصلوا ندوتهم. هاجمت الشرطة الندوة، ووقع صدام أدى إلى مقتل الطالب أحمد قرشي طه وجرح كثيرين وإصابة آخر بجروح خطيرة. كان استشهاد القرشي الشرارة. وتحول تشييع جثمانه في صباح اليوم التالي إلى مظاهرة سياسية قادها أساتذة الجامعة وطلابها وانضمت إليهم المنظمات الأخرى. تطورت الأحداث حتى جاء اعلان الإضراب السياسي العام. وتكونت في الحال جبهة الهيئات من المحامين والقضاة وأساتذة الجامعة والنقابات المهنية والعمالية. وشهدت الفترة من 24 حتى 26 أكتوبر اتساع الاضراب السياسي الذي بلغ قمته بدخول عمال السكة الحديد. وتحرك الضباط الأحرار ورفضهم نزول الجيش للشارع لضرب المتظاهرين، وضغطهم على الرئيس عبود ليحل المجلس الأعلى، وكانت تلك نقطة حاسمة في مسار الثورة. وفي مساء 26 أكتوبر أعلن حلّ المجلس العسكري. وهكذا سقط الحكم العسكري بعد ستة أيام من الصراع الضاري.
تولت جبهة الهيئات مع الجبهة الوطنية التي كونتها الأحزاب، قيادة الأحداث والتفاوض مع القيادات العسكرية لتسليم السلطة للمدنيين. ووضعت “ميثاق أكتوبر”. وتشكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة. وفي أول خطاب له في 10 نوفمبر 1964 عن قضية الجنوب، أعلن سر الختم الخليفة رئيس الوزراء أن حكومته تعتقد اعتقادا راسخا أن القوة ليست حلا لمشكلة الجنوب، وتشعر بأن استعمال القوة قد زادها تعقيداً. ثم قال إن حكومته “تعترف بكل شجاعة ووعي بفشل الماضي وتواجه صعوباته، كما أنها تعترف بالفوارق الجنسية والثقافية بين الشمال والجنوب التي تسببت فيها العوامل الجغرافية والتاريخية”. وعلى أساس الاعتراف بمثل هذه العناصر في المشكلة، أعلن رئيس الوزراء أن حكومته تنوي اتخاذ سياسة تهدف إلى إعادة الثقة في الجنوب، وستأخذ بعين الاعتبار آراء المثقفين من أبناء الجنوب. ومن ثم فتحت حكومة أكتوبر الانتقالية قنوات اتصال مع القيادات الجنوبية بالخارج وأعلنت في 10 ديسمبر 1964 العفو عن جميع السودانيين الذين هاجروا للخارج من أول يناير 1955. وتبنت الحكومة اقتراح حزب سانو بالدعوة إلى مؤتمر المائدة مستديرة للنظر في موضوع العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب.
نلتقي مع الحلقة الثالثة.
المصدر: صحيفة التغيير