
إبراهيم هباني
في كل مرة يبدو فيها أن الحقيقة تقترب من أبواب مؤسسات الدولة، تتصرف بقايا النظام الإخواني كعادتها القديمة، تغلق الباب من الداخل، وتطفئ الأنوار، وتعلن في بيان متعجل أن العدالة تهدد السيادة، وكأن السيادة في جوهرها هي حماية الأكاذيب لا حماية الناس.
اليوم نعيش مفارقة يصعب على أكثر الروائيين جنونا أن يفتعلها.
الطرف المتهم في أحداث الفاشر يقبل لجنة تقصي الحقائق الأممية، بينما الدولة التي تدعي تمثيل الشرعية هي من ترفضها.
وهي مفارقة تكفي وحدها لإعادة كتابة ألف صفحة في تاريخ تزييف الوعي الذي تتقنه الحركة الإسلامية منذ ثلاثين عاماً.
الحكومة، أو ما تبقى من دولة تمسك بها الحركة الإسلامية بأظافرها، تعرف جيداً أن لجنة التحقيق الدولية ليست خطراً على السيادة، بل خطراً على الرواية.
وبين السيادة والرواية اختارت إنقاذ الرواية، لأن السيادة ذهبت منذ زمن بعيد، وتحديداً يوم أن تسلم التنظيم الإرهابي الدولة كغنيمة لا كمسؤولية.
الحركة الإسلامية بارعة في صناعة الخوف.
تقدم للشعب كل يوم طبقاً جديداً من الروايات الجاهزة، مرة مؤامرة كونية، ومرة عدو خارجي، ومرة حرب وجودية، وهلمجرا.
لكنها لا تجرؤ على مواجهة لجنة تحقيق محايدة.
ولو كانت واثقة من أي كلمة في خطابها الإعلامي، لفتحت أبواب ما تسيطر عليه في السودان المفتت أمام لجنة فليتشر، ولتحولت إلى أكبر مدافع عن التحقيق.
لكن الذي يرفض التحقيق لا يخاف العدالة، بل يخاف الحقيقة.
وهذه ليست المرة الأولى، فالحركة الإسلامية ذاتها هي التي صنعت وشرعنت ومجدت قوات الدعم السريع طوال عشر سنوات، ثم حاولت لاحقاً إقناع المواطن بأن الإبن الشرعي صار لقيطاً لا نسب له.
ومهما تغيرت الشعارات، تظل الحقيقة مدونة في محاضر برلمان الكيزان وخطب عمر البشير نفسه.
اليوم، تزييف الوعي يصل مرحلته الأخيرة.
لم يعد النظام الفاشي قادراً على ابتكار أكاذيب جديدة، فالأحداث باتت أسرع من خياله، والضحايا أكثر من أن تغطيهم بيانات حرب الكرامة.
الشعب السوداني ليس بحاجة لمن يفسر له هذه المفارقة، يكفيه أن يرى من يقبل لجنة التقصي، ومن يتهرب منها.
الهروب من التحقيق ليس موقفاً سياسياً، إنه اعتراف غير معلن بأن شيئاً ما يخيف من هم داخل مؤسسات الدولة أكثر مما يخيف من هم خارجها.
وفي لحظة ما، عندما تتوقف ضوضاء الحرب ويعود العقل للبلد، سيكتشف الجميع أن أكبر معركة لم تكن بين طرفين مسلحين، بل بين الحقيقة وتزييف الوعي.
وستنتصر الحقيقة، دائماً تنتصر، مهما تأخرت.
المصدر: صحيفة التغيير
