تناسل المليشيات وديمومة الحرب (في هجاء إدارة الأزمة بأزمة المليشيات)

د. أحمد عثمان عمر
(١) لم يعد خافيا على أحد أن استراتيجية الجيش المختطف، هي إدارة أزمة السلطة عبر إستدامة الحروب بالحفاظ على سياسة الإفقار والنهب ، وإستدامة الحروب عبر تكوين المليشيات. فعقلية قيادة الحركة الإسلامية المجرمة المسيطرة على الجيش المختطف، غارقة في ظلام التفكير العدمي الذي لا يرى بديلا عن إستدامة التمكين، ولا أدوات لديها للعودة إلى السلطة بشكل كلي غير الحرب، بعد انكشافها سياسيا وآيدلوجيا وأمنيا، منذ إندلاع ثورة ديسمبر المجيدة. فسقوط مشروعها السياسي الذي تآكل بصورة جدية بعد انفضاح طبيعته الإجتماعية عبر تعميم حالة الفساد، وتدمير مؤسسية الدولة ببناء دولة موازية، وتحويل المواطن لشخص عاجز عن الحياة عبر نهبه وتكريس ممارسات التطفل، وتجريف الساحة السياسية بتفكيك مؤسسات المجتمع الحديثة وإضعافها لمصلحة مؤسسات المجتمع الأهلي وعلى رأسها القبيلة، وإدارة حروبها على هذا الأساس الذي تمدد ليصبح حاملة الصراع وواجهته حتى داخل حزبها المؤتمر الوطني المحلول، الذي عانى من صراعات أولاد الغرب وأولاد البحر، وصراعات أولاد البحر أنفسهم على السلطة والنفوذ. وهذه بالطبع نتيجة حتمية لإعادة هيكلة المجتمع ليتناسب مع نشاط التطفل على العملية الإنتاجية ونزح الفائض الاقتصادي، وتدمير الصناعة وتغيير تركيبة الطبقة العاملة عبر تصفية صناعة النسيج وتفكيك السكك الحديدية، وبيع مؤسسات القطاع العام في أكبر عملية فساد شهدتها البلاد، والهجمة الشرسة على الطبقة الوسطى بالفصل والتشريد وإعادة هيكلة الخدمة المدنية واختطاف الجيش ومصادرته لمصلحة تنظيم سياسي إنقسم على نفسه بحكم الصراع على سلطة الدولة التي أصبحت هي المشروع لا سلطة للمشروع كما كان يرى عراب التجربة الذي انقلب عليه تلاميذه.
(٢) ومحصلة هذا التدمير الممنهج بغرض السيطرة، عجز المجتمع عن إدارة عمليته الإنتاجية وتوزيع عائداتها بصورة تسمح بتجديد القوى المنتجة والحفاظ على العملية الإنتاجية، حيث سيطر التطفل والفساد وهيمنة الرأسمالية الطفيلية الإسلامية على الاقتصاد وبناء إقتصاد موازي لا تسيطر عليه الدولة عبر سلطتها التنفيذية الواجهة، بحيث اصبح 82% من الاقتصاد خارج سيطرة وزارة المالية كما صرح (المؤسس) رئيس وزراء حكومة شبه المدنية، وتحت سيطرة الحركة الإسلامية المجرمة عبر واجهاتها المتمثلة في الجيش المختطف والأجهزة الأمنية ومليشيا الجنجويد وشركاتهم. هذا الأساس الاقتصادي، كرس ضرورة بناء حوامل للعنف وأدوات غير المؤسسة العسكرية المختطفة، التي فشلت في الاستمرار كمؤسسة تابعة لدولة مدنية بعد تحويل نشاطها من نشاط عسكري صرف، لنشاط اقتصادي يحتاج إلى حماية سياسية، جعلتها عنصراً فاعلاً في الحياة السياسية تمدد حتى أصبحت له علاقات خارجية اقتصادية وسياسية لا علاقة لها بأجهزة الدولة الواجهة. ومثال لذلك علاقته الاقتصادية بالمؤسسات الاقتصادية المسيطرة في مصر، وصولا لتطبيعه مع إسرائيل رغم أنف الشارع السوداني. وبالحتم واكب ذلك فشل هذه المؤسسة في القيام بدورها العسكري فشلا واضحا، حتم قيام الحركة الإسلامية المجرمة لتبني سياسة تكوين المليشيات لتقوم بهذا الدور، فشهدنا المليشيات الآيدلوجية كالدفاع الشعبي وكتائب الظل في بداية الهجوم الأيدلوجي الشامل، وانتهينا بالمليشيات المؤسسة على أساس قبلي كالجنجويد.
(٣) والناظر للحرب الراهنة، لا محالة يرى فشل الجيش المختطف الذريع في بدايتها أمام المليشيا التي صنعها، وانسحابه المخزي وتركه للمواطن تحت رحمة هذه المليشيا الأرهابية، وسقوط حامياته نفسها الواحدة تلو الأخرى في يدها، مما حتم التجييش عبر تكوين المليشيات واستخدام أخرى قائمة بالأساس. وبما أن الجيش المختطف لا يستطيع تجييش أو استنفار الناس استنادا لايدلوجيا اسلاموية سقطت مع المخلوع البشير، تم التجييش استنادا لخطاب الوطنية والكرامة ، ولكن على أساس قبلي بحت. إذ أن المليشيات الأساسية التي تقاتل مع الجيش المختطف، أهمهما الآن مليشيا درع السودان وأساسها أبناء قبيلة الشكرية، وكتائب الحركة الإسلامية المجرمة بمسمياتها المختلفة وأساسها أبناء وسط وشمال السودان في تحالف قبلي هش قابل للانفجار، ومليشيا القوات المشتركة المكونة بالأساس من قبيلة الزغاوة في دارفور، وفي الطريق توجه لتكوين مليشيا لقبيلة البطاحين وقبيلة الكواهلة، في استعداد واضح لتحويل الحرب إلى حرب اهلية قبلية، استنادا للترويج بأن الجنجويد ما هم إلا قبيلة الرزيقات والمسيرية، الذين لا يمكن التعايش معهما مجددا. وهذه وصفة شاملة لاستدامة الحرب، وتحويلها إلى حرب أهلية مستقبلية حتى في حال الوصول لتسوية لإنهاء الحرب الماثلة. فنحن نشهد أمام أعيننا ميلاد المليشيات اللازمة لبناء دولة البحر والنهر ، باعتبارها فكرة اسلاموية قائمة على مشروع دولة مثلث حمدي أحد منظري الحركة الإسلامية المجرمة، ومصادرة نشاط الجيش المختطف لمصلحة هذه المليشيات الفاعلة في الحرب الحالية، والتي بدونها لا يستطيع الجيش المختطف القيام بواجبه في استرداد الأراضي المسيطر عليها من قبل مليشيا الجنجويد الإرهابية.
(٤) وخطورة تبني استراتيجية إدارة أزمة السلطة عبر تكوين المليشيات القبلية لا تقتصر على تحويل الحرب لحرب اهلية تؤسّس لتقسيم ما تبقى من البلاد فقط، ولكنها تقود إلى تعميم نمط سلوك المليشيات وعقليتها على كل القوى المشاركة في حالة انفلات العنف. فالأسافير ممتلئة بالشكوى من قيام منسوبي الجيش المختطف والمليشيات التابعة له بنهب المواطنين وشفشفة أموالهم أو النذر البسيط المتبقي منها في مناطق سيطرته في امدرمان واخيراً في كافوري، وكذلك في قيام الجيش المختطف ومليشياته واجهزته الأمنية باعتقال اكثر من ألف وأربعمائة مواطن بمدينة ودمدني بعد استعادتها، يتعرضون للتعذيب المريع والتجويع ومنعهم حتى من شرب المياه بشكل كاف أو الخروج لقضاء الحاجة. وهذا سلوك مليشياوي بامتياز، لا علاقة له بمؤسسات دولة تخضع للقانون. والمؤسف أن الاعتقال شمل كبير الجراحين بمستشفى مدني لمجرد فضحه لاحتياجات المستشفى، والتهمة جاهزة للجميع وهي التعاون مع المليشيا الإرهابية بعد هروب الجيش المختطف ومليشياته من المدينة وتسليمها للجنجويد سابقاً. استدامة الحرب وتحويلها لحرب أهلية، وتعميم أسلوب النهب والتعذيب بالتجويع وما شابه، والقتل تعذيبا وذبحا خارج نطاق القانون، يعكس عجز الحركة الإسلامية المجرمة في إدارة ازمتها وفشلها المزمن في التحول إلى سلطة مهيمنة بالفعل تفرض ارادتها بقوة السلاح على الجميع، ويكرس حتمية لجوئها لبناء مليشيات قبلية، ستفشل حتما في السيطرة عليها كما فشلت في السيطرة على مليشيا الجنجويد الإرهابية. فهي تخطط لاستخدام المليشيات القبلية من الوسط والشمال في تحجيم حركتي وزير المالية وحاكم دارفور من بورتسودان (جنجويد المستقبل)، في معركة مؤجلة وانقسام لا مناص منه في حال وضعت الحرب الحالية أوزارها، عبر تسوية يصرخ بعض واجهات الحركة الإسلامية من مفاوضاتها السرية التي تجري الآن، على أساس مبادرة (المؤسس) وبضغط من المجتمع الدولي. والواجب هو رفض سياسة إدارة الأزمة عبر المليشيات، والتمسك بشعار ثورة ديسمبر القاضي بحل جميع المليشيات وتسريحها، وذلك عبر استعادة الجيش المختطف وإعادة هيكلته ليصبح قادرا على القيام بالمهمة. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!! .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة