تمرد أم انهيار منظومة سياسية وعسكرية السودانية , اخبار السودان
تكمن مشكلة هذا البلد الرئيسة في انعدام الوطنية لدى النخب العسكرية والسياسية التي طالما تعاونت مع الأجنبي واستعانت بطائراته العسكرية على دك الجزيرة أبا، تدمير قرى الجنوب، النيل الأزرق ودارفور، … إلى آخره، واليوم تستنكر لجوء “المليشيا” للاستعانة بفصيل له أطماع من نوع أخر. لا غرو، فإن الآلة العسكرية كانت وسيلة النخب المركزية لتطويع الهامش قسريا. أما وقد انعتقت الشعوب من الوصاية فلم يعد من الممكن إرجاع “الغرّابة” (من غرب السودان) أو أهل الهامش عموماً إلى بيت الطاعة، لعل ذلك ما يؤرق مضجع كثير من النخب المركزية التي اختارت أن تستظل بظل “القومية” و “المؤسسية” أو تلك اللافتات الأيديولوجية التي ما برحت توفر لها أحقية بل قدسية وتعطيها ميزة وأفضلية. لا يفهم من حديثي هذا أن قادة الدعم السريع هم ممثلين متجردين لقضايا الهامش أو لقضايا الريف السوداني عموماً لكنهم فاعلين عضويين استطاعوا أن يتلمسوا مشاعر الغبن عند أولئك وهؤلاء ويستثيروا حفيظتهم للقتال. سيكتشف أهل الهامش والعطاوة خاصة، هذا إذا لم يكتشفوا بعد، عبء الحماقة والشطط في الاستفراد بالرأي في القضايا ذات الأبعاد المصيرية والقومية. فالقائد الشجاع حقاً لا يورد قومه مورد التهلكة وقد توافرت سبل النجاة واستبانت حيل المباهلة التي تغني عن المواجهة.
لم تبلغ المهانة بشعبٍ مثلما بلغت بالشعب السوداني الذي وجد نفسه ضحية تجاذبات محلية وإقليمية وعالمية نالت من تماسكه الوجداني وحطت من قدره الوجدوي. تعايش العرب والزرقة مئات السنين دون محاولة لإفناء بعضهم البعض، تداخل الجلابة والغرابة كذلك لعقود في فضاءات انداحت فيها ثقافات وتداخلت فيها حضارات، اجتمع البدو والحضر في خلوات لم تخلو من احتكاكات، بيد أن الأخيرة أخذت بعداً عدمياً عوض عن ذاك التعاوني والتكاملي على إثر تمدد الاقتصاد الكولونيالي الذي اعتمد تشييد هرمية عرقية ساعدته على بسط سلطته السياسية ولم يرع بالاً لما قد تحدثه هذه الامتيازات السيادية أو تلك التمايزات اللونية في محاولة النخب الوطنية لبناء الدولة الحديثة، أو لعل “الرجل الأبيض” (أي المستعمر) أراد أن يطعن في مشروعيتها منذ اللحظة الأولى. ونحن في متاهتنا الأخيرة يجب أن نقر بأنّه لم تعد لدينا غير النظم الدستورية والمؤسسية وسيلة لحلحلة المشاكل الإجتماعية والسياسية. وما عدا ذلك فهياج لا محل له من الإعراب.
لقد استبشرت خيراً بلقاء القيادات العسكرية من الجيش والدعم السريع في دولة البحرين، فهذه الحرب ليس فيها منتصر والخاسر هو الوطن. بيد إننى أتخوف من إتفاقٍ لهم يمكن أن يعيدهم هم وأعوانهم من المدنيين إلى المشهد أو الساحة السياسية، لا سيما في ظل التصدع والاختراق الحالي الذي يعتور الجبهة المدنية، والذي تود أن تنفذ من خلاله العصابة إياها للبحث عن دورٍ سياسي وعسكري لها في الحقبة القادمة. هذا أعلى طموحاتهم أمّا أدناها فالحفاظ على مكتسباتهم المادية، فك الحظر عن حساباتهم البنكية، والحصول بالضمان على عدم المساءلة على الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية. لم يكن الكاتب محايداً لحظة في هذه الحرب بل كان منحازاً منذ اليوم الأول للشعب وناقماً من النخب العسكرية التي استثارات حفيظة المقاتلين وأوغرت صدورهم باسم قضايا لم تكن تلك النخب مؤمنة أو مخلصة لها، إنّما اتخذتها تُقْية لتحقيق مآرب ذاتية وتنفيذ أجندات خارجية. يجب أن لا نغفل مطلقاً عن حقيقة مفادها أن العسكر قد سعوا منذ اليوم الأول لتصفية الثورة، عليه فيجب أن نعمل على ترميم الجبهة المدنية ترميماً يجعلها عصيةً على المرجفين وعلى الحالمين الذين يعتقدون أن الأولوية للديمقراطية، إذ أن الأولوية للحِكمانية (الحُكم من الحِكمة وليس الحَكامة). لا يمكن المرور من خانة الفوضوية (Anarchy) إلى خانة الديمقراطية دون المرور بمرحلة تأسيسية تراجع فيهما مرتكزات وأساسيات الجمهورية الثانية (علمانية الدستور، الفدرالية الديمقراطية، والتنمية الريفية الشاملة، …. إلى آخره).
إن الخروج من هذه الورطة التاريخية والأزمة الوجودية يتطلب حنكة في التعامل مع الدول الغربية (الولايات المتحدة تحديداً، فهي صاحبة النفوذ في المؤسسات الدولية الإقتصادية والمالية والسياسية منها كما أن لها إرثاً مؤسسياً وتفوق تقني وعلمي)، وذلك يتطلب تفاهماً على الصعيد المحلي بين عساكر مهنيين وسياسيين وطنيين، فالمرحلة تتطلب توافقاً (وليس تناغماً كما كان يقول صاحبنا المستقيل) بين القوى السيادية متمثلة في الضباط الأحرار الذين خبأتهم يد العناية الإلهية عن التدجين والإدارة التنفيذية متمثلة في التكنقراط الوطنيين ورجال الأعمال المُنْجِزين (ليس بالضرورة النافذين). يجب أن تتعلم الخارجية الأمريكية من أخطاء سالفاتها في العراق وأفغانستان، فالتعويل على جماعات تفتقر إلى الرصيد الأدبي والفكري والتاريخي والاجتماعي يعيق من إمكانية النهضة، بل يحدث نكسة من شأنها أن تدخل البلاد في غياهب الاستبداد والفاسد.
إنّ ما حدث في السودان لم يكن تمرداً إنما انهيار لمنظومة قيمية وفكرية اعتمدت عبر عقود متتالية المصادمة مع المجتمعين المحلي والدولي. لقد استنفدت النخب المركزية، بشقيها العروبي والإسلاموي، رصيدها الفكري والروحي فآن لها أن تتواضع فما عادت سبل الريادة حكراً على ملة دون أخرى. لقد حازت النخب المركزية السلطة فترة سبعة عقود جربت فيها كل النظريات الفاشلة من ناصرية، وشيوعية لينينية، وشيوعية صينية، رهاب شريعة إسلامية وخباب دولة إسلامية انتهت بالعنصرية، الفساد واللصوصية. لقد حان الوقت لهذه النخب أن تتنحى مفسحة المجال لآخرين لديهم فكر إنساني وموجهات كونية علها تحمل البُشْرَيات لهذا الشعب وتُمَكِن له سبل السعادة والرفاء.
أرجوكم لا تحاولوا الالتفاف على شعارات الثورة بالإطاري، بالقومية أو بالمؤسسية، فالشعب يريد اسقاط “المنظومة” وليس فقط اسقاط النظام. في هذا المنحى يحتاج الشعب إلى يقظة الحس الوطني وبداهة الضمير الاجتماعي أكثر من حاجته للسلاح الذي أصبح وبالاً على حامليه الذين رأوا فيه وسيلة لاستضعاف الناس وإذلالهم، يشمل ذلك الجيش الذي بات يقتل على الهوية والدعم السريع الذي بات يعدم دون روية. لم نصل إلى هذا الدرك الأسفل إلا بتعمدنا إهمال سبل المساءلة والمحاسبية. يجب أن يُساءل كل من تسبب في هذه الحرب التي أزهقت أرواح الناس ودمرت حيواتهم وعبثت بآمالهم وسفهت أحلامهم. لقد اثبتت التجربة أن السطوة لا تعني السيطرة، كما إن الأخيرة لا تعني السلطة. (راجع كتاب Ruling But Not Governing للكاتب Steven Cook).
بالنظر إلى الطريقة التي تعاملت بها القيادات المتقاتلة مع المواطن، والتي اتسمت بالعنجهية، والسبهللية والوقاحة واللامبالاة، فإن كلاهما يفتقر إلى الاخلاق وإلى المسئولية التي تجعله قميناً وأميناً على مستقبل الشعب السوداني. عليه، فيجب أن تُتَّخذ كأفة الخطوات التي تضمن خروجهما بالكلية من المعادلة الحكمية. إن أي إجراء لا يستبعد هؤلاء المتسلطين يعني بالضرورة مكافأتهما على الجريمة التي ارتكباها في حق الشعب السوداني. كما يجب أن تُساءل القوى السياسية التي انحازت لكلا الفريقين، وأن تستبعد الشخصيات السياسية التي تواطأت مع القوى الإقليمية المحرضة والداعمة للحرب. متى ما نفت الأرض خبثها فهناك مستقبل بهيج ينتظر الشعب السوداني ووعد أريج سينتظم ساحته الثقافية {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}، سورة النحل. صدق الله العظيم
المصدر: صحيفة التغيير