تمجيد المسيح وأمه مريم وجدته زوجة عمران في الإسلام

د. محمد المنير أحمد صفى الدين
مقدمة:
فى هذا لمقال سوف أُبيِّن للقارئ كيف أن الإسلام قد رفع من مكانة سيدنا عيسى بن مريم وأمّه وجدّته لامه، وأنه لا يَكتمل إيمان أيِّ مسلمٍ إلاّ بالتصديق بسيدنا عيسى عليه السلام كما أخبرنا عنه القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فالإسلام والمسلمون لا يحملون للمسيحية وللمسيح عليه السلام إلا الحب والاحترام والتقدير.
الإسلام عقيدة تقوم على توحيد الله باعتباره خالق الكون ومُتولي أمره، والاعتقاد بأن رحمة الله بالبشرية اقتضت أن يهديهم إلى ما يُصلح شأنهم في هذه الحياة الدنيا، ويؤهلهم للسعادة الأبدية في الحياة الآخرة. لذا، فإنه أرسل الرسل لهداية الناس، وجعل جميع رسله على نهج واحد مُضطرد، يقوم على توحيد الله، ثم اتباع توجيهات ربانية لإعمار الأرض، ونشر العدل، ومنع الظلم والفساد، بحسب مقتضيات كل حقبة ومجتمع إنساني، وحسب ما شاع من ممارسات خاطئة بين المجتمعات الإنسانية.
وفي هذا السياق، يُشترط على المسلم أن يؤمن، كركن من أركان الإيمان، بكل الكتب السماوية ورسل الله الذين أنزلت عليهم تلك الكتب. لذا، فإن كل من يعتقد في الإسلام اعتقادًا صحيحًا يؤمن بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام. وفيما يلي الملامح الرئيسية التي رسمها القرآن الكريم وسنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لعيسى بن مريم عليه السلام.
مولد السيدة مريم ومولد يحيى عليهما السلام:
جاء ذكر اسم “عيسى” في القرآن الكريم 25 مرة، وذُكر اسم “المسيح” 11 مرة، وذُكر اسم السيدة “مريم” 24 مرة. وسُمِّيت ثلاث سور في القرآن بأسماء متصلة بالمسيح وأمه وجدّته: سورة “آل عمران” (والدا السيدة مريم عليها السلام، وهي من أطول السور في القرآن)، وسورة “مريم” (أم المسيح)، وسورة “المائدة” التي حكت قصة العشاء الأخير كما يُعرف في الديانة المسيحية.
وتحدث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كثيرًا عن المسيح عليه السلام، وبشّر بعودته، ووصف تفاصيل تلك العودة، بما في ذلك مكان هبوطه إلى الأرض، والأحداث الملازمة لها. وسأذكر بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن المسيح عليه السلام.
الحديث عن عيسى عليه السلام وعن مولده بدأ من قصة جدته السيدة “حنّة” زوجة عمران وأم السيدة مريم، حيث إنها، لما شعرت بالحمل في رحمها، توقعت أن يكون المولود ذكرًا، ونذرت لله تعالى أن تجعله متنسكًا متعبدًا في خدمة الله.
“إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” (سورة آل عمران، الآية 35).
ولكنها عندما وضعت أنثى، تحسّرت، وقالت وكأنها تعتذر لله: “فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم” (سورة آل عمران، الآية 36).
ثم يحكي لنا القرآن كيف تقبّل الله مريم، ومهّد لها الحماية والنشأة الصالحة، بأن أوكل تنشئتها لنبي الله زكريا عليه السلام، وأن الله تكفّل بإطعامها بشكل خاص. فقد كان يأتيها من عند الله أصناف من الفاكهة والطعام في غير موسمه، مما دعا زكريا للتعجب والسؤال عن مصدر ذلك الطعام: “فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (سورة آل عمران، الآية 37).
وعندما سألها زكريا عليه السلام عن مصدر الطعام من الفاكهة التي كان يجدها عندها في غير موسمها، قالت له: هذا رزق من الله، وأن الله يرزق من يشاء بغير حساب. وعندما سمع زكريا من مريم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، سأل الله تعالى أن يرزقه ولدًا رغم كِبَر سنّه، وسنّ زوجته التي كانت في الأصل عاقرًا. فاستجاب الله له ورزقه سيدنا يحيى عليه السلام.
هكذا ربط القرآن الكريم ميلاد النبي يحيى بقصة مريم وعمق إيمانها بالله تعالى: “هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين” (سورة آل عمران، الآيتان 3839).
مولد عيسى عليه السلام ومخاطبته للناس حين وُلِد:
يُخبرنا القرآن في سور وآيات متعددة عن مولد عيسى عليه السلام كمعجزة من معجزات الله تعالى. فقد جاءت البشارة للسيدة مريم من الملائكة بخلق عيسى في رحمها من غير أب، وأنه سيكون كلمة الله ورسولَه إلى بني إسرائيل على الخصوص، كما كان موسى عليه السلام. وقد سمّاه الله قبل مولده “عيسى بن مريم”، ووصفه بأنه سيكون ذا وجاهة ومكانة خاصة وقرب من الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة. وأخبر الله تعالى السيدة مريم بأن المسيح عيسى سيكلم الناس وهو طفل في المهد، وسيكلمهم وهو شيخ كهل.
وعندما تعجّبت مريم واستفسرت من الله تعالى كيف يكون لها ولد وهي بكر لم يمسسها بشر؟ أجابها الله تعالى أنه يخلق ما يشاء بكلمة “كن”، فيكون ما يشاءُ الله. وأخبرها الله أنه سيعلّم المسيح التوراة، ويؤتيه الإنجيل والحكمة:
“إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ…” (سورة آل عمران: 4549).
وجاء في سورة التحريم تزكية السيدة مريم وتبرئتها من أي تهمة زنا، وتأكيد أن خلق عيسى في رحمها جاء بأمر الله “كن”:”وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ” (سورة التحريم: 12). وفي سورة الأنبياء، الآية 91: “وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ”. فالحمل جاء بنفخ في جسدها على العموم، وفي فرجها على الخصوص، فوقع الحمل بأمر من الله تعالى.
وجاء في سورة مريم مزيد من التفصيل عن كيفية خلق ومولد المسيح عليه السلام من غير أب: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)” (سورة مريم: 1621).
في هذه الآيات يُبيّن لنا الله أن السيدة مريم كانت في مكان خلوة واحتجاب عن الناس شرق المسجد الأقصى، فأرسل الله لها الملك جبريل (روح القدس)، فظهر لها في شكل إنسان سوي. فخافت واستجارت منه بالله الرحمن، فطمأنها بأنه ليس بشرًا، وإنما هو مَلَك مرسل من عند الله تعالى ليبشرها بغلام زكيّ. وهنا تساءلت مريم عن كيفية أن يكون لها غلام من غير اتصال جنسي برجل، بزواج أو غيره؟ فأجابها المَلَك جبريل: نعم، لم يمسسكِ رجل كما قلتِ، ولكنها إرادة الله “كذلك قال ربك هو علي هين”، فليس هناك شيء يصعب على الله عز وجل، وقد قضى الله ذلك الأمر وقرره: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (سورة القصص: 68).
وأخبرها المَلَك بأن ابنها سيكون “زكيًّا” أي مطهرًا من الذنوب، وسيكون رسولًا ورحمة للناس.
ثم يحكى لنا القرآن الأحداث التي صاحبت لحظات المخاض وولادة المسيح. “فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26). (سورة مريم، الآيات 2226). أي أن السيدة مريم ابتعدت عن الناس عندما حملت بالمسيح وذهبت إلى مكان ناءٍ، ثم إن المخاض والشعور بأن لحظة الولادة قد اقتربت، اضطرها أن تجلس بجوار جذع شجرة نخلة. وفي تلك اللحظة شعرت بالحزن لما هي فيه، وتمنت لو أنها ماتت قبل تلك اللحظة وأصبحت في عداد المنسيين من الناس. ولتخفيف ما كانت تشعر به، جاءها صوت المسيح، وهو ما زال في رحمها: “لا تحزني”، إن الله قد أجرى نهرًا من تحتك، ولكي تأكلي عليك أن تهزي جذع شجرة النخل، وسوف يتساقط عليك الرطب، فكلي واشربي واطمئني. وإذا رأيت أحدًا من البشر يسألك ويتحدث إليك، فقولي إنك نذرت للرحمن صومًا فلن تكلمي اليوم إنسيًّا.
والأمر للسيدة مريم بأن تهز جذع شجرة النخل لكي تسقط ثمارها رغم أنها في حالة مخاض وضعف، إنما المقصود منه أن تأخذ بالأسباب، وأن تساقط الثمار يكون بأمر الله وفعله.
عيسى الطفل يخاطب الناس ويعرّف بنفسه يوم مولده:
بعد أن ولدت السيدة مريم طفلها وعادت به إلى مدينتها، استقبلها الناس بالاستنكار والتعنيف، قائلين إنها اقترفت إثمًا عظيمًا، وهي التي كانت أخت هارون، أي من أسرة طيّبة السمعة، معروفة بالتنسك والصلاح. قالوا لها: لم يكن أبوك رجل سوء، ولم تكن أمك امرأة بغية!
ففعلت مريم كما أمرها الله، إذ صامت عن الكلام وأشارت إلى الطفل الرضيع، وكأنها تقول لهم: سلوه. فاستغرب القوم قائلين: كيف نكلم من كان في المهد صبيًّا؟!
وهنا وقعت المعجزة: أنطق الله عيسى عليه السلام وهو طفل ليُبرئ أمّه، ويعرّف بنفسه ورسالته، قال الله تعالى: ” فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) . (سورة مريم، الآيات 27 33).
لقد كانت أول حقيقة أعلنها عيسى بن مريم، وهو لا يزال طفلًا في المهد، أنه عبدٌ لله، وأن الله آتاه الكتاب وجعله نبيًا، وأوصاه بالصلاة والزكاة، وأمره ببر والدته، وجعله مباركًا أينما كان، ولم يجعله متعجرفًا شقيًا.
عيسى عبد الله وكلمته، وليس لله ولد:
حدثنا القرآن أن أول ما نطق به عيسى عليه السلام، وهو طفل وليد، قوله: “إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ”. وردًّا على من يقولون إن ولادته من غير أب تدل على أنه ابن الله (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا)، يذكرنا القرآن أن خلق عيسى عليه السلام كمثل خلق آدم، الذي خلقه الله من غير أب ولا أم. فما العجب أن يخلق عيسى من أم بغير أب؟ “إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (سورة آل عمران، الآية 59).
وفي “سورة الإخلاص”، السورة التي تمثّل العقيدة الخالصة في الله تعالى، جاء التعريف الواضح بذات الله، فقال عزّ وجل: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد (4)”ٌ.
فالإيمان الصحيح بالله يقتضي الاعتقاد الجازم بأنه واحدٌ أحد، مستغنٍ عن كل أحد، لا والد له ولا ولد، ولا يشبهه في الكون أحد. ويؤكد القرآن هذا المعنى مرةً أخرى بقوله: ” مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36)”. (سورة مريم، الآيات 3536).
تبرئة عيسى من دعوى الألوهية:
يروي لنا القرآن الكريم كيف سيُسأل عيسى بن مريم يوم القيامة أمام الخلائق: هل دعا الناس إلى عبادته وعبادة أمه؟ والمقصود من هذا السؤال بيان براءته من تلك الدعوى، وتثبيت الحُجة على من نسبوها إليه زورًا:
“إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)(سورة المائدة، الآيات 116 الى 118).
عيسى والمعجزات التي أجراها الله على يديه:
أورد القرآن عددًا من المعجزات التي أُجريت على يد المسيح عيسى عليه السلام، لإقناع بني إسرائيل بأنه رسول من عند الله، لا سيما أنهم كانوا يطلبون الآيات المادية الملموسة. ومن أبرز هذه المعجزات:
• كلم الناس وهو في المهد، وقد وقع.
• سيكلم الناس كهلاً، وهذا سيحدث عند عودته في آخر الزمان.
• علمه الله الكتاب، والحكمة، والتوراة، والإنجيل.
• صنع من الطين طائرًا ثم نفخ فيه، فصار طائرًا بإذن الله.
• شفى الأكمه والأبرص بإذن الله.
• أخرج الموتى من قبورهم أحياء بإذن الله.
• نجا من محاولة قتله إذ رفعه الله إليه.
• ألهم الله الحواريين الإيمان به، رغم تكذيب الكهنة والمضللين.
وقد جمعت هذه المعجزات في قوله تعالى: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115)” (سورة المائدة، الآيات 110 الى 115).
عيسى لم يُقتل ولم يُصلب، بل نجّاه الله ورفعه إلى السماء حيًّا:
يحكي لنا القرآن الكريم أنه عندما تآمر أعداء المسيح على قتله، نجّاه الله من القتل ورفعه إلى السماء حيًّا، دون قتل أو صلب. وقد أكّد القرآن بوضوح أن المسيح لم يُصلب ولم يُقتل، كما ادّعى أعداؤه:
“إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)” (سورة آل عمران، الآية 55). ومتوفيك تعنى قابضك إليّ.
وقال تعالى: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)” (سورة النساء، الآيات 157158).
إن الله قد خلق عيسى بمعجزة، ونجّاه بمعجزة الرفع إلى السماء حيًّا، وسيعود إلى الأرض بمعجزة جديدة. فهو، في تقديري، أعز وأجل من أن يُترك فريسة لعدوَّيه يهينه ثم يقتله صلبًا.
أما فيما يتعلق بمفهوم “الخطيئة الكبرى” التي مات المسيح على الصليب كما يقال ليكفّرها، فإن القرآن الكريم بيّن أمرين مهمين: أولًا: أن آدم عليه السلام تاب وندم واستغفر الله لخطئته، وقد قَبِل الله توبته. فخطيئة آدم قد غُفرت له قبل نزوله إلى الأرض. يقول الله تعالى على لسان آدم وحواء : قال الله تعالى : “قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (سورة الأعراف، الآية (23. وبعد هذا الإقرار بالخطيئة وطلب المغفرة، جاءت رحمة الله ليعلّمهما كلمات الاستغفار ويقبل توبتهما. قال تعالى: “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم” (سورة البقرة، الآية 37).
الأمر الثاني، مبدأ مسؤولية كل إنسان عن أفعاله، فلا يتحمّل أحد وزر غيره ولا يكفّر عنه خطيئته. فالمسؤولية فردية. قال الله تعالى: ” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” (سورة المدثر، الآية 38)، وقال تعالى: “أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ” (سورة النجم، الآيات 3841).
عودة المسيح عيسى بن مريم إلى الأرض:
أخبرنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن أحداث عظيمة سوف تقع في آخر الزمان منها ظهور المسيح الدجال وانتشار الظلم والفساد في الأرض، وفى ذلك الزمان سوف يرسل الله المسيح عيسى بن مريم للأرض لقتل المسيح الدجال وكسر الصليب كإبطال للاعتقاد بأن المسيح قد صلب، وأنه سيحكم في الناس بدين الإسلام وينشر العدل والرخاء في الأرض، وأنه سيمكث في الأرض عددا من السنين ثم يموت ويدفن. وجاءت بعض الروايات غير المؤكدة بأن المسيح بعد موته سوف يدفن بجوار النبي محمد صلى الله عليها وسلم. من هذه الأحاديث:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: “إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة.” (الأثر: 7133 مرسل، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 36)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ (صحيح البخاري: الحديث رقم 2222). وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن نزول الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ: ” فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ” (صحيح مسلم، حديث رقم 5339).
في هذه الأحاديث الثلاثة، يُخبرنا الرسول ﷺ أن المسيح عيسى بن مريم سينزل بعد ظهور الدجال، وسيقتله، ويملأ الأرض سلامًا وخيرًا، وسينزل في مكان قريب من دمشق في سوريا، ويحمله ملكان، ويكون في غاية النضارة والنظافة والهيئة الجميلة عند نزوله إلى الأرض.
ورغم أنني اكتفيت بهذه الأحاديث الثلاثة، إلا أن هناك أحاديث أخرى أكثر تفصيلًا عن نزول المسيح يمكن للقارئ مراجعتها في كتب السنة.
المسلمون لا يكرهون المسيحيين:
أردتُ من هذا المقال أن أُبيِّن للقارئ كيف أن الإسلام قد رفع من مكانة سيدنا عيسى بن مريم وأمّه وجدّته، وأنه لا يَكتمل إيمان أيِّ مسلمٍ إلاّ بالتصديق بسيدنا عيسى عليه السلام كما أخبرنا عنه القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فالإسلام والمسلمون لا يحملون للمسيحية وللمسيح عليه السلام إلا الحب والاحترام والتقدير.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة