محمد فيصل الدوسري
كان تقرير “رويترز تقصّي الحقيقة” لحظة كاشفة في حربٍ لم تعد تُدار في الخنادق وحدها، بل في الفضاء الرقمي حيث تُعاد صياغة الوقائع على مقاس السياسة. ادّعت “سلطة بورتسودان” أن مقطعاً مصوّراً يُظهر “مرتزقة كولومبيين” تدعمهم الإمارات يقاتلون في الفاشر. عاد فريق التقصّي إلى المصدر والزمان والزيّ والشارات العسكرية، فإذا بالمشهد تدريبٌ حيّ في إستونيا شاركت فيه وحدات أميركية وبريطانية وكندية وإستونية؛ لا دارفور، ولا كولومبيا، ولا الإمارات. فسقطت رواية كاملة بضربة تحقيق مهني.
الفيديو المضلل يعد نموذجاً لمنهج دعاية يُنتج حقائق بديلة عبر الضخّ المنظّم. عناوين مُهيّجة، قصاصات مبتورة، ومنصّات اجتماعية تُعيد تدوير المادة حتى تغدو يقيناً شعبياً. وما إن تتعرّض السردية لصفعة الوقائع، حتى يُستولد ادعاء جديد من قبيل “طائرة إماراتية دُمّرت في نيالا، وهي تحمل مرتزقة”، من دون أي دليل مستقل أو صور أقمار صناعية أو تقرير تحقيق محايد. ذلك ليس سوء تقدير إعلامي، إنّه قرار سياسي يَستخدم التضليل لتغطية تكلفة الحرب وتعميدها أخلاقياً.
الإعلام الإخواني يُستعمل بوصفه محرّكاً إضافياً لخطاب سلطة بورتسودان. يحاول تنظيم “الإخوان” المتداخل بنيوياً مع مراكز نفوذ عسكرية تدوير تكتيكات قديمة بثوب رقمي جديد. شيطنة الخصوم الداخليين، اتهام الحكومات بـالتواطؤ، واصطناع عدو خارجي تُعلّق عليه كل المآسي.
حرب الوعي تُدار بوسائط حديثة، وجيوش من اللجان الإلكترونية، مقاطع مُفبركة، وتوظيف لوسائل الذكاء الاصطناعي في التزييفين الصوتي والبصري، مع ضخ رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي تخاطب الانفعال الشعبي، وتستثمر في فوضى اللحظة، آلة تحشيد إخوانية تُقوّض الثقة بالمسار المدني بقدر ما تشوّه صورة الخصوم.
وتبدو الإمارات هدفاً واضحاً للسردية الإخوانية، اسمٌ قوي في مواقفه الواضحة تجاه معاني التسامح والتعايش والسلام، ومحاربته للأفكار الظلامية المتشددة والمتطرفة، وظلّت مواقف أبو ظبي معلنةً ومتّسقةً بشأن السودان: دعم مسار السلام، والإسناد الإنساني عبر القنوات الدولية، ورفض الزجّ باسمها في تصفية حسابات داخلية. الاتهام حين لا يُسنَد بدليلٍ قابلٍ للتحقّق (كما كشف تحقيق “رويترز”)، يتحول قرينةً على صاحب الاتهام لا على مُتَهَمه. ولا يُغفل هنا أن مسارات لاهاي القضائية الدولية أسقطت روايات مشابهة، ما يعزّز فرضية أن بعض ما يُبثّ ليس سوى إدارة متعمدة للتضليل.
حتى في قراءة الوثائق الدولية، تتبدّى الفجوة بين النصّ والادّعاء. فقد سُوِّق بيان مجلس الأمن بشأن “الحكومة الموازية” كأنه تفويض سياسي لقيادة الجيش، بينما روحه ومضمونه واضحان، وقفٌ دائمٌ لإطلاق النار، انتقالٌ بقيادة مدنية، وانتخابات. وليس انتصاراً لطرفٍ على طرف، بل قيدٌ على الجميع بأن تخرج المؤسسة العسكرية وسائر التشكيلات المسلحة من السياسة فور وضع التسوية على سكّتها. قراءة سلطة بورتسودان للبيان محاولة أخرى لتغذية سردية الغلبة، لا لفهم شروط الحلّ.
المواطن السوداني الذي يواجه الخطر والجوع والنزوح لا يحتاج إلى العناوين الساخنة، بل إلى معلومات صحيحة وسياسات مسؤولة. حين تُغرقه سلطة بورتسودان ومَن يساندها من ماكينة إخوانية بسيلٍ من الأكاذيب، فهي لا تغيّر واقع الحرب، بل تُفاقم آثارها، وتُقسّم المجتمع، وتُضعف الثقة بالمؤسسات، وتُعقّد أي فرصة لتسوية جادّة. وهنا تتقدّم الصحافة المهنية بوصفها حاجزاً أخلاقياً ومعرفياً في وجه الابتزاز العاطفي.
تقرير “رويترز تقصّي الحقيقة” يذكّرنا بقاعدة بسيطة: إن اُتهمتَ فَقَدِّم دليلاً، وإن كان دليلك مقطعاً بلا سياق، فسياقه موجود ويمكن الوصول إليه، كما فعل فريق التقصّي حين عاد إلى المصدر الأول وتتبّع المكان والزيّ والزمن. الدعاية المضللة لم تكسبك جولةً في الفضاء المتسارع، ولن تصمد أمام الأدلة، لأن الحقيقة مهما طال الطريق تصل.
سردية التخوين والتوريط الخارجي تُنتج إدماناً على الأزمة، وتُعيد إنتاج العنف. أمّا السردية التي تنطلق من وقائع قابلة للتحقّق، واعترافٍ بالمسؤولية، والتزامٍ بمسارٍ مدني جامع، فهي وحدها القادرة على نقل السودان من الحرب إلى السلام. من هنا تبدو قيمة تقرير “رويترز” أكبر من تفنيد فيديو، إنّه تذكير بأن بناء المستقبل يبدأ من خطوة أولى لا تعجب دعاة الفوضى: دعوا الوقائع تتكلّم، واتركوا السياسة للمدنيين.
نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية
المصدر: صحيفة التغيير