نبيل منصور
مقدمة
ظلّت معضلة الانتقال السياسي في السودان تتكرر منذ الاستقلال، إذ لم يشهد البلد مسارًا مستقرًا نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية. فالصراعات التي طالت النخب السياسية والعسكرية كانت في جوهرها صراعًا على السلطة، أكثر من كونها صراعًا حول مشروع الدولة. وهو ما جعل الانتقال الديمقراطي حلمًا مؤجلاً ومحل نزاع دائم، فبعد كل ثورة شعبية، تنشأ تسويات تبدو ظاهريًا كخطوات نحو التحول، لكنها كثيرًا ما تتحول إلى إعادة إنتاج للنظام القديم بآليات جديدة.
في أعقاب ثورة ديسمبر 2018م، ظهر مصطلح “الهبوط الناعم” كمفهوم مثير للجدل داخل الخطاب السياسي السوداني، وبرز كعنوان سعى أصحابه الي تعريفه بأنه انتقال تدريجي “آمن” يُجنّب البلاد الفوضى والانهيار. لكن هذا المفهوم قوبل بانتقادات واسعة، واعتُبره البعض غطاءً ناعمًا لإجهاض الثورة وحماية مراكز النفوذ القديمة من التفكيك الحقيقي.
هذه الورقة تسعى إلى تفكيك مفهوم الهبوط الناعم من حيث جذوره النظرية، وتطبيقاته العملية في التجربة السودانية، كما تناقش مدى واقعيته وجدواه في ظل تعقيدات المرحلة الانتقالية. ومواقف عدد من أبرز السياسيين والمثقفين السودانيين منه. فهل يمثل الهبوط الناعم حلاً عقلانيًا في سياقات هشّة؟ أم أنه فخ يُعيد إنتاج الاستبداد بصورة أكثر قبولًا؟ وهل بالإمكان تجاوز هذا النموذج نحو انتقال جذري يُحقق تطلعات الثورة دون الانزلاق إلى الفوضى أو الحرب؟
المحور الأول : مفهوم الهبوط الناعم الجذور والمضامين
مصطلح “الهبوط الناعم” ليس جديدًا في الأدبيات السياسية، إذ نشأ في الأصل ضمن سياق السياسات الاقتصادية، حيث استُخدم لوصف محاولات تجنب الركود عبر أدوات تدريجية، تحفظ الحد الأدنى من الاستقرار دون اللجوء إلى إجراءات صادمة. لاحقًا، انتقل المفهوم إلى حقل العلوم السياسية، ليصف استراتيجيات التحول التدريجي من أنظمة سلطوية إلى أخرى أكثر انفتاحًا، دون تفكيك مفاجئ أو انهيار شامل للمؤسسات.
في السياق السوداني، استُخدم المصطلح للإشارة إلى مسعى بعض القوى السياسية، المحلية والدولية، نحو تسوية انتقالية تُجنّب البلاد الانزلاق إلى الفوضى، عبر شراكة مرنة أو مرحلية مع المؤسسة العسكرية، على أمل تفكيك تدريجي لبنية النظام القديم. وقد تجلّى هذا التوجه بوضوح بعد سقوط نظام البشير في 2019م، حيث اتسمت ترتيبات الفترة الانتقالية الأولى (2019م2021م) بمحاولة إرضاء العسكريين والمدنيين معًا، دون المساس العميق بالبُنى الأمنية والاقتصادية للنظام السابق. ثم أعيد طرح الفكرة بجرأة أكبر بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، من خلال مبادرات “التوافق الوطني” و”الشراكة المعدّلة”، التي قُدّمت كمخارج للأزمة، لكنها كرّست موازين القوى القديمة.
تكمن إشكالية “الهبوط الناعم” في طبيعته الملتبسة والمزدوجة: فهو من جهة يسوّق كخيار عقلاني لتفادي الحرب والانهيار، لكنه من جهة أخرى يتحوّل في كثير من الأحيان إلى أداة لإعادة تدوير السلطة القديمة وتطبيع وجود العسكر كفاعل سياسي دائم، لا كمؤسسة مهنية خاضعة للرقابة المدنية. كما أن هذا النهج كثيرًا ما يتجاهل الجذور العميقة للأزمة السودانية، والتي لا تتعلق فقط بتقاسم السلطة، بل بتراكمات تاريخية من التهميش، والتمييز، وغياب العدالة الاجتماعية. فخطاب الهبوط الناعم يميل إلى إدارة الأزمة بدل تفكيكها، وإلى هندسة تسويات فوقية تتجاهل القوى الحية للثورة.
إضافة إلى ذلك، فإن فكرة الهبوط الناعم غالبًا ما تكون منسجمة مع مصالح قوى خارجية تسعى لاستقرار قابل للتوظيف يخدم أجنداتها، لا لتحول جذري قد يُعيد ترتيب أولويات السلطة والثروة على أسس أكثر عدالة واستقلالية. وهنا تكمن المفارقة: فبينما تطالب قوى التغيير بتفكيك شامل لمصادر القمع والفساد، يعمل هذا النوع من التسويات على تحصين مراكز النفوذ القديمة، وإعادة تأهيلها تحت شعارات جديدة.
مواقف النخب السودانية من الهبوط الناعم
لم يكن موضوع “الهبوط الناعم” غائبًا عن ساحة الكتابة والتحليل السياسي السوداني، فقد تصدى له عدد من الأقلام منذ بداياته، سواء من باب التحذير منه بوصفه مشروعًا لإعادة تدوير النظام القديم، أو من خلال الترويج له ضمنيًا بوصفه المسار “العقلاني” لتجنب الانهيار.
وعند النظر إلى المفكرين والسياسيين المؤثرين في هذا السياق نجد أن:
• الصادق المهدي كان أبرزهم، إذ يعتبر من أوائل الذين تبنوا هذا المفهوم ضمن مشروع “الهبوط الناعم” الذي صاغه كـ”حل تفاوضي” مع النظام البائد لتفادي السيناريو السوري أو الليبي. كان أكثر الشخصيات التي ساهمت عمليًا في التمهيد لمشروع الهبوط الناعم، عبر دعواته المتكررة لـ”التراضي الوطني” و”المصالحة الشاملة”، التي كثيرًا ما صبت في اتجاه إشراك منسوبي النظام السابق والقوى العسكرية في إدارة الفترة الانتقالية، بحجة تجنب “الفراغ السياسي”. كما مارس حزب الأمة أدوارًا محورية في مسارات التسوية، خاصة في مرحلة نداء السودان وقحت لاحقًا.
• الحاج وراق كان من أوائل الذين حذّروا من التمكين الناعم للفلول تحت غطاء التحالفات المرحلية، لكنه سرعان ما مال إلى خطاب يُغلّف الهبوط الناعم بلغة براغماتية، داعيًا إلى ما يسميه “التوازن الضروري” بين المدنيين والعسكريين، مبديا مرونة مشروطة، خصوصًا في ظل توازنات القوى المعقدة وغياب البديل الجاهز.
• النور حمد تبنّى خطابًا أكثر مباشرة في تبرير “التسوية”، حيث رأى أن السودان بحاجة إلى طبقة “وسطية عاقلة” تُمكِّن من انتقال تدريجي نحو الديمقراطية، متغاضياً في أحيان كثيرة عن البنية العنيفة للسلطة التي يُراد التعايش معها. عالج الجوهر الفلسفي والاجتماعي للمسألة عبر مفهوم “العقل الرعوي”، وبيّن كيف أن بعض النخب لا تتعامل مع السياسة كفن للممكن، بل كمنبر للمزايدة الأخلاقية والتطهر، مما يعرقل الانتقال ويهدم الدولة من حيث لا يشعرون.
• في ذات المنحى، يُعد عمر الدقير من الرموز التي عبّرت عن خط “الهبوط الناعم النظيف”، حيث أظهر التزامًا شكليًا بمبادئ الثورة، لكنه انخرط في تحالفات مرحلية مع المكون العسكري، مبررًا ذلك بضرورات الانتقال، متجاهلاً التحذيرات الشعبية من التلاعب بالثورة. بدا ذلك واضحًا في خطابه خلال مفاوضات الوثيقة الدستورية، وفي مواقفه من لجنة إزالة التمكين، ومن انقلاب 25 أكتوبر قبل وقوعه.
• أما كمال الجزولي فقد انتقد استخدام مصطلح “الهبوط الناعم”، واعتبره محاولة لحرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للأزمات السياسية، مشيرًا إلى أن الحديث عنه يمثل تشويشًا على القضايا الجوهرية.
• وصف د. أحمد عثمان عمر استراتيجية “الهبوط الناعم” بأنها تهدف للحفاظ على التمكين، معتبرًا أن من يدعو إليها يسعى لإجراء تغييرات شكلية دون المساس بجوهر النظام.
• أما د. عبدالله علي إبراهيم فلم يستخدم المصطلح صراحةً، لكنه تبنّى فكرة التسويات الواقعية والبراغماتية السياسية بدلًا من الشعارات الجذرية. انتقد الرفض المطلق للتفاوض، واعتبر أن القطيعة الكاملة مع مؤسسات الدولة القديمة أو خصوم الثورة تعيق التغيير. هاجم الرومانسية الثورية و”الاستعلاء الأخلاقي”، داعيًا إلى حلول تراعي موازين القوى، وكان موقفه أقرب إلى “الهبوط الناعم النقدي” أو “المرحلي”، وليس التسوية بأي ثمن. وبالتالي يمكن تصنيفه ضمن من لم يرفضوا الهبوط الناعم، بل حاولوا عقلنته وتقييده بشروط واقعية.
وهكذا يمكن القول إن خطاب “الهبوط الناعم” لم يكن مجرد مقترح خارجي فُرض على السودان، بل وجد من يتبناه داخليًا من بعض النخب المثقفة والسياسية، التي رأت فيه مسارًا للانتقال المتدرج والآمن نحو الديمقراطية. وقد غُلّف هذا التوجه بمصطلحات مثل العقلانية والتدرج والواقعية السياسية، غير أن هذا الطرح، في نظر كثير من الفاعلين الثوريين، بدا متجاهلًا لعمق المطالب الشعبية في القطيعة الجذرية مع أنظمة الاستبداد والفساد.
المحور الثاني : مزايا الهبوط الناعم ومكامن خطورته
يقدّم أنصار “الهبوط الناعم” تصورًا براغماتيًا لإدارة التحولات السياسية المعقدة، خاصة في الدول الخارجة من أنظمة استبدادية أو نزاعات مسلحة، كالسودان. تستند هذه الرؤية إلى مبدأ الواقعية السياسية، وتقوم على فرضية أن التغيير الراديكالي الفوري قد يؤدي إلى انهيار مؤسسي أو فراغ أمني، لا سيما في السياقات التي تحتكر فيها النخب العسكرية والأمنية أدوات القهر، وتتحكم في مفاصل الدولة العميقة.
أولًا: المزايا من منظور أنصار الهبوط الناعم
1. تفادي الانهيار الشامل: إذ يُعتبر خيارًا لتجنب الفوضى أو الحرب الأهلية، خاصة عندما لا يكون ميزان القوى في صالح قوى التغيير الجذري.
2. حماية الدولة من الانقسام: من خلال تأجيل الصدام مع مراكز النفوذ التقليدي، والبحث عن تسويات مرحلية.
3. كسب الوقت لإعادة ترتيب الصف المدني: بما يسمح بخلق قاعدة جماهيرية وتنظيمية قادرة على مقاومة الردة والانقلابات.
4. امتصاص الضغوط الإقليمية والدولية: التي غالبًا ما تفضّل “الاستقرار” على “التحول الراديكالي”، ولو كان ذلك على حساب العدالة أو التغيير الحقيقي.
ثانيًا: المخاطر والعيوب كما يراها خصوم الهبوط الناعم
1. إعادة تدوير النظام القديم: حيث يحتفظ الفاعلون السلطويون بأدوات التأثير الحقيقية، ويتم تجميلهم فقط بواجهة مدنية.
2. خيانة لمضامين الثورة: إذ يتم تمييع شعارات التحول الجذري، وتحويل مسار الثورة إلى مشروع إصلاح سطحي.
3. خلق حالة من الإحباط الشعبي: بسبب استمرار الأزمات البنيوية (الاقتصاد، العدالة، الأمن) رغم إسقاط رأس النظام.
4. إضعاف الذاكرة الثورية: من خلال التسويات والترضيات، ما يؤدي إلى تآكل الرصيد المعنوي والسياسي للثورة.
5. تحصين مراكز القوة داخل الدولة: مما يُعقد أي محاولة لاحقة للتفكيك أو المساءلة أو العدالة الانتقالية.
في التجربة السودانية، تجلت هذه التناقضات بشكل صارخ. فبينما رأى البعض في اتفاق الشراكة (2019م2021م) وسيلة لمنع الانزلاق إلى الفوضى، اعتبره آخرون مقدّمة لانقلاب 25 أكتوبر 2021م، الذي أكد هشاشة التوازنات القائمة، وأن أي شراكة لا تقوم على تفكيك فعلي لمراكز النفوذ هي مجرد هدنة قصيرة.
المحور الثالث : البديل عن الهبوط الناعم هل هناك خيار واقعي؟
إن رفض “الهبوط الناعم” لا يعني بالضرورة القفز نحو الفوضى أو العنف الثوري، لكنه يطرح تساؤلًا مشروعًا: ما البديل؟ وهل يوجد خيار واقعي وممكن التطبيق، يُحقق التغيير دون السقوط في دوامة الحروب أو إعادة إنتاج القديم؟
أولًا: البديل من منظور قوى الثورة الجذرية
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن البديل هو التحول الجذري المتدرج، والذي يقوم على:
1. إزاحة النخب العسكرية والأمنية من مراكز القرار، دون تصفية مؤسسات الدولة، ولكن بإعادة هيكلتها.
2. الاعتماد على جماهير الثورة كقوة دفع أساسية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في رسم السياسات الانتقالية.
3. خلق سلطة انتقالية مدنية بالكامل، تُبنى على مشروع وطني متوافق عليه لا على توازنات هشّة.
4. العدالة الانتقالية والمحاسبة، باعتبارها المدخل الضروري لأي مصالحة حقيقية ومستدامة.
5. إعادة بناء القوات النظامية على أسس وطنية ومهنية، بما يضمن حيادها التام في السياسة.
ثانيًا: هل هذا الخيار واقعي؟
يعتمد ذلك على ثلاثة عوامل:
• ميزان القوى في الشارع: كلما كان الشارع موحدًا ومنظمًا، زادت فرص فرض أجندة مدنية دون مساومة.
• الانقسامات داخل معسكر السلطة: تفكك تحالفات العسكر والفلول يفتح مجالًا للتغيير دون صدام شامل.
• الضغط الدولي المتوازن: إذا اقترن دعم المجتمع الدولي برؤية واضحة لدعم التحول المدني، بدلًا من الاكتفاء بـ”الاستقرار الأمني”، فإن فرص هذا البديل تتعزز.
لكن التحدي يكمن في أن هذا الخيار يتطلب زمنًا وتنظيمًا وقيادة موحدة، وهي عناصر غالبًا ما تكون ضعيفة أو ممزقة عقب الثورات، كما هو الحال في السودان. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى إستراتيجية واضحة لتقوية الفاعلين المدنيين، بدل الارتهان لمعادلات “الهبوط الناعم”.
المحور الرابع : متى يكون “الهبوط الناعم” خيارًا أقل ضررًا؟
رغم ما يثيره مفهوم “الهبوط الناعم” من تحفظات مشروعة، فإن رفضه المطلق قد يغفل عن واقعية بعض السياقات التي تجعل منه خيارًا اضطراريًا أو أقل ضررًا، لا باعتباره حلًا مثاليًا، بل باعتباره مرحلة مؤقتة لاحتواء الانهيار الشامل.
أولًا: السياقات التي قد تبرر الهبوط الناعم
1. انقسام قوى الثورة: عندما تكون القوى المدنية مشتتة وضعيفة التنظيم، يصبح من الصعب فرض تحول جذري دون انزلاق إلى الفوضى.
2. وجود سلاح خارج سيطرة الدولة: في حالات كثرة الجيوش أو المليشيات (كما في السودان بعد 2023م)، يصبح تفكيك المنظومة القديمة دفعة واحدة أمرًا محفوفًا بالخطر.
3. انهيار اقتصادي خانق: قد تفرض الأزمة الاقتصادية الحاجة إلى استقرار مؤقت يتيح إصلاحات تدريجية.
4. ضغوط دولية لا تسمح بالتغيير الجذري: حين تتحكم قوى إقليمية ودولية في مفاتيح الدعم أو الموارد، قد تفرض سقفًا منخفضًا للتغيير لا يمكن تجاوزه في المدى القصير.
ثانيًا: التحصين من الانحراف
حتى في هذه الحالات، لا يعني القبول بالهبوط الناعم التسليم المطلق بشروط المنظومة القديمة. بل يجب أن يُدار كـ:
• تفاوض مشروط، لا شراكة مفتوحة.
• مرحلة انتقالية محددة بزمن وأهداف واضحة.
• عملية مراقبة شعبية دقيقة، تمنع تحوّل التدرج إلى تخدير سياسي طويل الأمد.
• آلية مراجعة دورية للتقييم والمساءلة.
ثالثًا: خطورة الوقوع في “التدريج الأبدي”
الخطر الأكبر هو أن يتحول الهبوط الناعم من خيار اضطراري إلى نهج دائم لإدارة الانتقال، مما يقتل روح الثورة ويقنن نفوذ مراكز القوى. لذلك، لا يكفي طرحه كأداة تجنب الانهيار، بل يجب دائمًا ربطه بهدف أوضح: تفكيك منظم للقديم، لا ترويض للثورة.
المحور الخامس : لماذا يؤدي غياب “الهبوط الناعم” إلى الفوضى أو انهيار الدولة؟
يرى البعض أن رفض الهبوط الناعم بالمطلق، دون طرح بدائل واقعية، قد يُسهم في خلق فراغات خطيرة تؤدي إلى الفوضى أو انهيار الدولة، خاصة في السياقات الهشة مثل السودان. لكن هذا الطرح، رغم وجاهته في الظاهر، يخفي ثغرة منهجية: إذ يفترض أن البديل الوحيد للهبوط الناعم هو الفوضى، متجاهلًا إمكانيات أخرى للإدارة الثورية الواعية، أو بناء توازنات جديدة من داخل القوى المدنية والشعبية.
أولًا: السياقات التي تجعل غياب الهبوط الناعم خطرًا
1. تفكك الدولة ومؤسساتها: إذا سقط النظام القديم فجأة دون بديل جاهز، تنشأ حالة فراغ قد تستغلها المليشيات أو الأجهزة الأمنية.
2. غياب قيادة موحدة للثورة: الفوضى قد تتغذى من تعدد الأصوات الثورية دون جسم سياسي قادر على ملء الفراغ.
3. ضعف ثقافة الدولة المدنية: في ظل تراث طويل من الحكم العسكري، قد يرى المواطنون في انهيار النظام تهديدًا للحد الأدنى من الاستقرار.
4. تدخل خارجي: كلما زادت الفوضى، زادت فرص التدخل الإقليمي والدولي الساعي لحماية مصالحه على حساب الإرادة الشعبية.
ثانيًا: الرد على الفرضية القائلة بـ”الهبوط الناعم أو الفوضى”
هذه الثنائية زائفة ما لم تكن مصحوبة بتحليل سياسي صادق. فالفوضى ليست نتيجة غياب الهبوط الناعم، بل غالبًا نتيجة غياب المشروع البديل الحقيقي. أي أن الخطر لا يكمن في رفض الشراكة مع النظام القديم، بل في:
• رفض الشراكة دون بناء بديل منظم.
• التمسك بالشعارات دون أدوات تنفيذية.
• تحرك الجماهير دون قيادة استراتيجية واضحة.
ثالثًا: البديل الممكن: “الهبوط الثوري المحسوب”
لحل الإشكال، يمكن التفكير في شكل جديد من الانتقال يجمع بين:
• حسم مبدئي ضد النظام القديم.
• إدارة ذكية للمخاطر المرحلية.
• تصعيد تدريجي لقوى الثورة داخل مؤسسات الدولة.
• دعم شعبي ومجتمعي يبني شرعية بديلة.
بهذا المعنى، لا يكون غياب الهبوط الناعم هو الخطر، بل غياب الرؤية الثورية الواقعية، وعدم إدارة الفراغ الناتج عن إسقاط النظام بذكاء وبناء مؤسسي.
المحور السادس : تجارب مقارنة نجاح وفشل الهبوط الناعم
نماذج نجاح نسبي:
1. جنوب أفريقيا (1994م)
بعد سقوط نظام الفصل العنصري، جرى انتقال تفاوضي بقيادة نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، لم يشمل اجتثاثًا كاملاً للنظام القديم، بل حافظ على بعض رموزه ضمن اتفاق سياسي. صحيح أن المنظومة الاقتصادية بقيت رأسمالية بامتياز، لكن حدث تحول جذري في البنية السياسية، وتم امتصاص خطر الحرب الأهلية.
2. تشيلي بعد بينوشيه
جرى الانتقال من الحكم العسكري إلى النظام الديمقراطي بشكل تدريجي، بمزيج من إصلاحات دستورية وتوافق سياسي، دون صدام شامل مع المؤسسة العسكرية، ما ساعد في الحفاظ على الاستقرار.
نماذج فشل:
1. مصر بعد 2011م
أدّت التسويات بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين إلى إعادة إنتاج منظومة السلطة، وانتهى الأمر بانقلاب عسكري في 2013م وعودة أشد أشكال السلطوية. هنا مثّل الهبوط الناعم فخًا حقيقيًا، تم فيه استيعاب القوى المدنية ضمن لعبة صورية.
2. السودان (2019م2021م)
كما بيّنت الورقة، فإن الشراكة بين المدنيين والعسكريين بعد سقوط البشير، بضغط خارجي وتوازنات داخلية، لم تُحدث تفكيكًا حقيقيًا لبنية النظام، بل انتهت بانقلاب عسكري. هنا تحوّل الهبوط الناعم إلى سردية شكلية ضُربت عند أول اختبار.
3. اليمن (2011م)
بعد الثورة اليمنية في 2011م، تم اعتماد “مبادرة مجلس التعاون الخليجي” التي قامت على تسوية سياسية تُبقي الرئيس علي عبد الله صالح في المشهد كرئيس شرفي، مع منحه الحصانة، وانتقال تدريجي للسلطة عبر انتخابات شكلية. بدا ذلك كـ”هبوط ناعم” يحافظ على الاستقرار، لكنه في الواقع:
• أبقى بنية النظام الأمني والعسكري تحت سيطرة النخبة القديمة.
• لم يعالج جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
• سمح باستمرار الانقسامات الطائفية والمناطقية.
النتيجة: فشل التسوية، ثم دخول الحوثيين إلى العاصمة، وانفجار حرب أهلية إقليمية ما زالت مستمرة حتى اليوم، وتحوّل اليمن إلى ساحة نفوذ متشابك بين السعودية، الإمارات، إيران، وأطراف محلية متصارعة.
إذًا، يمكن أن تكون نماذج الفشل الثلاثة كالآتي:
1. مصر (2011م2013م) فشل تسوية مدنية/عسكرية.
2. السودان (20192021) انقلاب على التسوية بعد عجز المدنيين.
3. اليمن (20112014) تسوية هشة تجاهلت جذور الأزمة وأفضت إلى حرب.
إذن الهـبوط الناعم ليس مضمون النجاح أو الفشل في ذاته، بل تحدده عوامل مثل:
• ميزان القوى بين المدنيين والعسكر.
• مدى تنظيم الحركات الجماهيرية.
• وجود مشروع وطني واضح.
• استقلال القرار السياسي عن الضغوط الدولية والإقليمية.
الخاتمة: بين وهم الاستقرار وحقيقة التحول
في تجارب الانتقال السياسي، كثيرًا ما يُقدَّم “الهبوط الناعم” كخيار عقلاني لتفادي الفوضى، لكن التجربة السودانية تُظهر أن هذا الخيار لم يكن دائمًا وصفةً للسلام، بل أحيانًا غطاءً لإعادة إنتاج منظومة الهيمنة. فبينما سعت بعض القوى لتبرير الهبوط الناعم بوصفه حلاً وسطًا، كشفت الأحداث أن غياب تفكيك جذور الأزمة قد يؤدي إلى انفجار أكبر، كما حدث في انقلاب 25 أكتوبر وما تلاه من حرب كارثية.
لقد بيّنت الورقة أن الهبوط الناعم ليس خيارًا واحدًا ذا دلالة واحدة، بل تكتيك له وجوه متعددة، تتفاوت تبعًا للنوايا، والسياق، ودرجة التنظيم الشعبي. كما أظهرت أنه ليس هناك من بديل سهل، بل هناك بدائل أصعب لكنها أكثر صدقًا مع تطلعات الشعوب، ومنها: الهبوط الثوري المحسوب، الذي لا يُقصي الاستقرار، بل يربطه بتحول حقيقي في بنية السلطة.
إنّ تحدي السودان اليوم ليس في التوفيق بين “التغيير” و”الاستقرار” فقط، بل في تجاوز الثنائية الزائفة التي تجعل الشعب أسير خيارين: إما الفوضى أو شراكة مع من صنعوا الفوضى أصلًا. والمطلوب ليس رفض الهبوط الناعم كشعار، بل فضحه كمشروعٍ يلتف على الثورة، إن لم يُضبط بإرادة جماعية، وقيادة مستقلة، ومشروع دولة ينحاز للمواطن لا للمؤسسة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة