اخبار السودان

تفكيك خطاب خالد كودي في التحالف مع الجنجويد لقيادة تغيير ثوري وجذري في السودان

نبيل منصور

 

مقدمة

في خضم مشهد سوداني معقد، يتداخل فيه العنف مع الطموح الثوري، وتتنازع فيه القوى بين مشروع دولة مدنية ومخططات الهيمنة المسلحة، تبرز خطابات وتحالفات تتجاوز حدود المنطق الثوري وتطرح أسئلة جوهرية عن معنى التغيير وجدواه. من بين هذه الخطابات، يبرز طرح خالد كودي الداعي إلى تحالف مع الدعم السريع كمدخل لثورة جذرية، وهو طرح يفتح الباب أمام نقاش عميق حول حدود الواقعية السياسية، وسقف المبادئ، ومآلات التسوية مع أدوات القمع.

 

هذا المقال يحاول تفكيك هذا الخطاب من زواية معادلات القوة فقط ، تاركا الجوانب أو الزوايا الاخري لمعالجات لاحقة ، وفي نفس الوقت راجيا من خالد والقراء ان لا يفهموا انه من باب خصومة شخصية أو إنتصار لقطب ضد آخر، بل من منطلق مسؤولية فكرية وأخلاقية تسعى لإبقاء جذوة الثورة مشتعلة، دون أن تبتلعها حسابات القوة أو تميعها تحالفات الضرورة.

 

اولا :

تغييب القوة العسكرية والتنظيمية للدعم السريع :

 

يتحدث كودي عن “إخضاع” قوات الدعم السريع لمشروع تحالفه الثوري الجديد، وكأن هذه القوات مجرد مكون يمكن إعادة تدويره ضمن رؤية سياسية، دون تقديم أي آلية تنفيذية واضحة لهذا الإخضاع. هذا الخطاب يتجاهل تمامًا الواقع العسكري القائم ، فقوات الدعم السريع ليست ميليشيا مشتتة أو ضعيفة، بل قوة مسلحة ضخمة ومنظمة ومدعومة خارجيًا، وقد أثبتت قدرتها القتالية في مواجهة الجيش النظامي، وكبدته خسائر فادحة في الأرواح والمواقع.

 

إن التغاضي عن هذه الحقيقة ليس مجرد خطأ تحليلي، بل محاولة لتسويق مشروع تحالفي يتعامل مع مليشيا قاتلة على أنها طرف “قابل للإصلاح”، دون النظر إلى طبيعة تكوينها، وجرائمها، وتاريخها الطويل في انتهاك حقوق الإنسان. هنا يظهر التناقض الجوهري: كيف يدعو كودي إلى “ثورة جذرية” ضد الدولة العميقة، ثم يطرح في ذات الوقت تحالفًا مع أقوى أدوات تلك الدولة وأكثرها دموية؟ .

 

ثانيا:

تسطيح طبيعة الجنجويد

 

يتعامل كودي مع قوات الدعم السريع كأنها مكون اجتماعي/ سياسي يمكن إدماجه في مشروع ثوري عبر التحالف. هذه نظرة تُسقط عمداً الطبيعة العسكرية المليشياوية لهذه القوة، وتاريخها الدموي القائم على الارتزاق والانتهاك والعمالة الخارجية. الجنجويد ليسوا مجرد “ضحايا” لخطاب استعلائي كما يحاول كودي أن يصورهم ، بل هم أداة من أدوات سحق المجتمعات السودانية، خاصة عند النظر الي ماحدث سابقا ويحدث الان في دارفور وما حدث في الخرطوم والجزيرة وغيرها خلال هذه الحرب ، وبالتالي إدماجهم دون محاسبة وعدالة هو تطبيع مع الجريمة.

 

ثالثا :

تجاهل القوة الغاشمة للدعم السريع ثغرة بنيوية في سردية خالد كودي

 

يتعامل خالد كودي مع قوات الدعم السريع كأنها طرف يمكن إخضاعه بيسر وسهولة لإرادة “تحالف تأسيس” او طرف يمكن ان يلتزم بتعهداته ، متجاهلًا الطبيعة البنيوية لهذه القوة، التي تقوم على عقيدة النهب والهيمنة، والممارسة الواسعة لانتهاكات ممنهجة ضد المدنيين، بما في ذلك التطهير العرقي والاغتصاب الجماعي. هذا التجاهل لا يُعد مجرد سهو، بل هو إغفال مقصود يضرب مصداقية خطابه في الصميم.

 

لقد أظهرت المعارك، خاصة في الخرطوم والفاشر ونيالا، أن الدعم السريع ليس قوة ميليشياوية هامشية، بل جيش بديل منظم يمتلك موارد ضخمة، وخبرة ميدانية، وتحالفات إقليمية تُمكنه من الوقوف بندّية، بل وتفوّق، أمام الجيش السوداني. فكيف يمكن لهذا التحالف المدني المفترض أن “يخضع” قوة بهذا الحجم دون أن يمتلك هو نفسه قوة موازية أو قدرة تنظيمية على إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية؟ .

 

التجارب التاريخية تشير إلى أن القوى المسلحة حين تتفوق في الميدان، فإنها لا تقبل بسهولة الاندماج أو التبعية، بل تسعى لفرض شروطها كاملة. ما يدعونا للتساؤل : هل تحالف “تأسيس” يمتلك مشروعًا يوازي هذا الثقل الميداني؟ أم أنه مجرد غطاء مدني لمنح شرعية لتمدد الدعم السريع؟ .

 

إن القفز على هذه المعادلة، وتجاهلها عمدًا، لا ينم عن تفكير استراتيجي بقدر ما يعكس خطورة استسهال التحالف مع العنف. فإعادة إنتاج الدعم السريع كـ”فاعل مدني” لا تعني سوى مكافأة الجريمة، وتمهيد الطريق لسلطة ميليشياوية مغلفة بالخطاب الثوري.

 

رابعا :

نمازج تحالفات فاشلة

 

ورغم محاولات خالد كودي تبرير تحالفه مع قوات الدعم السريع باستدعاء نماذج تاريخية مختارة بعناية، إلا أن التاريخ ذاته يزخر بتحالفات مشابهة انتهت إلى نتائج كارثية، مما يقوض أطروحته ويدحض تفاؤله غير الواقعي. نذكر هنا بعض النماذج البارزة:

 

١/ تحالف فتح وحماس (2006م 2007م)

حين حاولت الحركتان الفلسطينيتان، فتح وحماس، تأسيس حكومة وحدة رغم التناقض الأيديولوجي الحاد، انهار التحالف سريعًا بعد مواجهات دموية، لتُحكم حماس السيطرة على غزة بقوة السلاح، مما أدى إلى انقسام جغرافي وسياسي دائم. لم يكن العدو المشترك (إسرائيل) كافيًا لضمان تحالف ناجح.

 

٢/ التحالفات المسلحة داخل الثورة السورية

العديد من الفصائل، بما فيها الجيش الحر، جبهة النصرة، وفصائل أخرى، تحالفت مؤقتًا ضد النظام السوري، لكن غياب التوافق حول المشروع السياسي أدى إلى تصفيات متبادلة وحروب داخلية، ساهمت في إضعاف الثورة وتحوّلها إلى فوضى دموية.

 

٣/ تحالف المجلس الانتقالي الليبي مع الكتائب المسلحة (2011م2014م)

بعد الإطاحة بالقذافي، فشل المجلس في دمج المليشيات التي قاتلت إلى جانبه، فتحولت تلك القوات إلى أدوات لحروب أهلية متجددة، ما أدى لانهيار الدولة تمامًا.

 

تشير هذه النماذج إلى أن أي تحالف مع قوى مسلحة منفلتة أو عقائدية أو غارقة في الانتهاكات لا يمكن أن ينتج عنه مشروع وطني ناجح، بل يفضي عادةً إلى المزيد من التفكك والانهيار. من هنا، يبدو أن تحالف “تأسيس” بقيادة خالد كودي لا يقرأ التاريخ إلا بعيون انتقائية، متجاهلاً دروسًا دامغة تؤكد أن العنف لا يُبنى عليه مشروع، وأن “الخصم المشترك” وحده لا يصنع تحالفًا مشروعًا أو ناجحًا.

 

خامسًا:

علاقة الدعم السريع بالإمارات البُعد الإقليمي والدولي للمشروع

 

في خضم دعوات خالد كودي لتحالف سياسي يتجاوز شعارات الثورة، ويفتح الباب أمام قوى مثل الدعم السريع، يغيب عنه أو يُغَيّب عن عمد البعد الأخطر في تكوين هذه المليشيا: ارتباطها العضوي بمشروع إقليمي تقوده دولة الإمارات، ويتداخل فيه البُعد الدولي بشكل واضح.

 

فالدعم السريع لم تكن قوة نشأت في فراغ، بل ظهرت كأداة وظيفية لتنفيذ مهام تتجاوز حدود السودان. بدءًا من القتال كمرتزقة في اليمن، مرورًا بعمليات تهريب الذهب، ووصولًا إلى دورها كذراع عسكري لحماية النفوذ الإماراتي في إقليم الساحل والصحراء.

 

لكن هذا المشروع ليس إماراتيًا خالصًا، بل يأتي في سياق رغبة القوى الكبرى كأميركا وفرنسا في استخدام حلفائها الإقليميين لتطبيق سياسات في مناطق النزاع دون تدخل مباشر، فيما يعرف بالاستعمار بالوكالة. فالغرب، الذي يرى في السودان ساحة صراع نفوذ، كثيرًا ما يغض الطرف عن جرائم الدعم السريع طالما يخدم التوازنات الإقليمية، ويمنع تمدد خصومهم، سواء روسيا أو إيران أو الحركات الإسلامية.

 

كما أن السيطرة على الذهب السوداني، والموانئ، والموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر، أدخلت قوى أخرى مثل إسرائيل ضمن شبكة المصالح، خصوصًا مع تنامي تقارير عن اتصالات غير معلنة بين الدعم السريع وتل أبيب في إطار مسار التطبيع.

 

وإذا أضفنا إلى ذلك الأموال الطائلة التي أنفقتها الإمارات في بناء الدعم السريع دعمًا لوجستيًا وعسكريًا واستخباراتيًا فإن الاعتقاد بأن هذه القوى ستتخلى ببساطة عن استثمارها السياسي والعسكري لصالح مشروع وطني حقيقي يبدو أمرا ساذجًا. فالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية التي تأسست على هذا الدعم لا يمكن التفريط بها لصالح قوى قد تهدد النفوذ الإماراتي أو الغربي في المنطقة.

 

من هنا، فإن إدماج الدعم السريع في مشروع وطني أو ثوري دون تفكيك هذه الروابط الإقليمية والدولية، أو على الأقل فضحها، لا يمكن قراءته إلا كشرعنة للاحتلال بالوكالة، وتحويل للثورة من أداة تحرر إلى غطاء سياسي لمشاريع لا ترى في السودان سوى مورد وأداة.

 

واخيرا ،

هل نقدنا للتحالف مع الدعم السريع يعني اصطفاف خلف الجيش ؟

 

فض التحالف مع الدعم السريع لا يعني دعم الجيش أو نسيان الثورة حين نرفض خطابات تبييض الدعم السريع أو الدعوة للتحالف معه، فإننا لا نفعل ذلك من موقع الحنين للمؤسسة العسكرية التي طالما مثلت ركيزة للأنظمة الاستبدادية في السودان، ولا من باب الاصطفاف خلف الجيش الذي اخترقته عناصر النظام البائد (الكيزان) وسخّرته لحماية مصالحهم.

 

بل إن موقفنا ينبع من التزام أخلاقي وسياسي بمبادئ الثورة، التي خرجت لإسقاط المنظومة العسكرية والأمنية بكاملها، لا لإعادة تدوير أحد أجنحتها أو تبرير جرائمه باسم التوازن أو الواقعية السياسية. إن نقدنا للتحالف مع الدعم السريع لا يعني الاصطفاف مع الجيش، بل يعني رفض الانخراط في أي مشروع يعيد إنتاج العنف والوصاية، سواء أكان بلباس الجيش الرسمي أو تحت عباءة المليشيا.

 

نحن مع مشروع وطني مدني ديمقراطي يوقف الحرب، يضع حداً للاحتلالات الداخلية والخارجية، ويُقصي كل من استخدم السلاح ضد المدنيين، دون استثناء أو انتقاء.

 

إن الثورة ليست شعارات عابرة ولا تسويات فوقية، بل مشروع وعي وتحرر جذري. وكل من يسعى لإعادة تدوير أدوات القمع أو تسويق وكلاء الخارج كحلفاء، إنما يساهم في إطالة أمد الحرب وتضييع حلم السودانيين في وطن حر ودولة عادلة. الثورة لا تختار بين الجلادين، بل ترفضهم جميعاً، وتبني طريقها بأيدي من حلموا بها وقدموا التضحيات لأجلها.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *