مهدي رابح
يمكن إعادة صياغة التساؤل الذي ابتدرنا به المقال الأول/السابق “من المسؤول عن الحرب وتبعاتها؟ “، ليصبح أكثر موائمة لهدفنا النهائي كالتالي : ” ما هي أسباب الحرب؟” ، وهو ما سيمكننا, كما اتمنى, الوصول الى استنتاجات منطقية قد تعيننا علي تناول الملامح الأولية لبعض الحلول لاحقا .
فالسرديات الحالية حول أسباب وماهية الحرب، بما فيها الخارجة للتو من غرف التضليل الإعلامي والدعاية الحربية أو المتداولة في فضاءات غرف الصدى الاسفيرية تذكرني كثيرا بأمثولة “المكفوفين والفيل”، تلك القصة الرمزية القديمة ، الآتية إلينا من أعماق شبه القارة الهندية، أرض الأساطير والحكمة.
في متن النص البوذي Tittha Sutta “تيتها سوتا”، والذي يمكن تتبع تاريخه لحوالي العام 500 قبل الميلاد، وفي معرض حسم الجدال السفسطائي بين مجموعة من النسّاك حول لا نهائية الكون, ضُرب مثلٌ لشرح الفارق بين الحقيقة ووجهات النظر الجزئية المبنية علي التجربة الشخصية او الانطباعات المدفوعة بتحيزات ذاتية وبالتالي العاطفة:
تقول القصة أن مجموعة من المكفوفين ألحفوا في السؤال عن ماهية حيوان الفيل، هذا الكائن الخارق الذي كثُر الحديث عنه في قريتهم، فأوتى بواحد واُعطي المكفوفين الفرصة لتلمّسه كلٌّ من موقعه، وعندما طُلب منهم بعد ذلك وصفه كانت الإجابات متباينة بصورة مدهشة رغم صحتها جميعا اذا تم الربط بينها بصورة منطقية، فهو يشبه الجرة الضخمة للمكفوف الذي تحسس رأسه او حائط الغرفة للذي تحسس جسده او العمود للذي تحسس قدمه، او المذراة “شفرة المحراث” للذي لمس أذنه، او السكين لمن تحسس نابه أو المكنسة للذي امسك بذيله… الخ
في حالتنا تحديدا أزعم أن محدودية القدرة على رؤية الازمة السودانية بشكلها الكلّي المترابط والمعقّد يكمن بصورة أساسية في التحيزات الذاتية الممزوجة بكسل معرفي وبضعف أدوات التحليل أكثر منها في نقص المعلومة.
ويأتي عنصر التضليل الإعلامي والمعلوماتي والدعاية الحربية, والذي تقف ورائه منظومات مقتدرة فنيا, جيدة التدريب والتمويل لتزيد الرؤية ضبابية بضخها كما هائلا من الأكاذيب الصريحة وانصاف الحقائق في الفضاء العام.
بما ان الوقت من ذهب دعونا نتجاوز عمدا سرديات حرب الكرامة التي أذلت الشعب السوداني كما لم يُذل من قبل او حرب القضاء علي دولة 1956م التي يحملها احد اهم عناصر دولة 1989م ويدفع ثمنها الأكبر المهمشين كما سنتجاوز سردية المتأسلمين الذين يعملون جاهدين لإضفاء بعد ديني لهذا الشر الكامل الذي لا دين له ولا ضمير, فكل القتلة على جانبي خط القتال يبسملون قبل ذبح ضحاياهم او ربما قبل اغتصابهم ثم يكبرون فرحين امام كاميرات هواتفهم الذكيّة. ودعونا نركز بدلا عن ذلك على تمييز الرؤي التي تبدو جزئيا موضوعية وان كانت من وجهة النظر الكليّة ودون ربطها معا اشبه بقصص المكفوفين والفيل سابقة الذكر.
السردية الأولى وربما أهم زوايا الرؤي على الاطلاق تقتصر على مؤخرة الفيل إن صح التعبير, أي رؤية الازمة من منظور الأسباب الذاتية, بمعنى إجرام وفساد وجشع افراد او مجموعات محددة.
أبرز الرؤى هي تلك التي ترى أن سبب الحرب الأوحد هم مجموعات من الإسلامويين وبالتحديد الشبكات الأمنية والاقتصادية للمؤتمر الوطني والتي أطلق عليها البعض ولمزيد التأكيد او لإعطاء الرؤية بعدا أكثر موثوقية مصطلح “المركز الأمني والعسكري للحركة الإسلامية”. ورغم أننا نتفق معهم تماما في ان تلك المجموعة هي مجموعة إجرامية بل ان بعض مكوناتها تنطبق عليها معايير تعريف الجماعات الإرهابية, وأنها بجانب اشعالها للحرب فهي لعبت دورا أساسيا في التمهيد لها بتعميق تشوهات الدولة وصناعة المليشيات والجيوش الموازية, الدعم السريع نموذجا, ونهبهم لمواردها وتسببهم في حروب مستمرة لمدي ثلاثين عاما, ارتكبت خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ورغم أن بعض حاملي تلك الرؤية يسعون صادقين لوقف الحرب وتلافي المأساة كما أحسن الظن بهم, إلا اننا نختلف معهم في أننا نرى أنها جزئية كما أنها تحمل في طياتها تناقضا جوهريا, لأنها بالضرورة تربط أي عملية وقف للحرب وبناء السلام بالقضاء على تلك المجموعة او إقصائها من أي عملية سياسية تؤدي لذلك. وهو ما يؤدي بالفعل لا بالقول إلى استمرار الحرب و استعارها وتضاعف اثمانها, لأن القضاء على ما يطلق عليهم بالمصطلح الشعبي “الكيزان” او اخراجهم من الفضاء السياسي تماما او فك ارتباطهم بالمنظومات الأمنية او التجارية الاجرامية الحالية لن يتم إلا بقوة السلاح, متناسين تماما أن عمليات السلام في التاريخ الإنساني نادرا ما يتم التوصل إليها بين ملائكة وبتاتا بين أصدقاء.
وبالمقابل تأتي الرؤية الثانية والتي لا تقل اهمية وتأثيرا لتحمّل أسباب الحرب بصورة استثنائية على الدعم السريع , ولجعلها مقبولة لدى البسطاء ومسلحين بالمرارات جراء الدمار والجرائم المروعة التي ارتكبت من قبل هذه القوات, يتم إعطائها بعدا جهويا و عنصريا في أحيان كثيرة بتصويرها كقوة أجنبية غازية ومعتدية. اهم مرتكزات هذه الرؤية, خصوصا عند بعض المثقفين الذين سقطوا في وحل الاستقطاب هو إقامة المقارنة بين الجيش كمؤسسة دولة والدعم السريع كمليشيا متمردة. ورغم اتفاقنا ان الدعم السريع يمثل خطورة على حاضر ومستقبل السودان وأن قياداته تتحمل مسؤولية جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها قواتها, الا اننا نضع في الحسبان انه لا يمكن اعتبار تلك القوة العسكرية بمعزل عن الجيش, فقد تم تكوينها وتطويرها تحت رعايته وحاربت القوتان سويا وارتكبتا جرائم مروعة سويا في دارفور وساحة الاعتصام وغيرهما وهي كما ذكر قائد الجيش الجنرال البرهان في خطاب شهير من رحم القوات المسلحة السودانية. كما لا ننسى أن هذه القوات, بجانب انها كانت من أدوات القمع التي استخدمتها دولة الإنقاذ ضد معارضيها قتلا وترويعا لما يزيد عن عقد من الزمان فإنها كانت أحد ركائز الفساد بل في مقدمتها. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الرؤية بجانب عطبها الذي لا تتناطح عليه عنزان تحمل عين الإشكال الجوهري السابق, فالدعوة للقضاء على هذه المجموعة, والتي اتخذت أبعادا اجتماعية جديدة تماما بعد الحرب لن يتم إلا بالقوة, وبالوضع في الحسبان المعطيات المادية للقوتين المتقاتلتين اليوم من المستحيل ان ينتصر أحدهما انتصارا عسكريا كاملا وحاسما وهو ما يعني استمرار معاناة ملايين من السودانيين والسودانيات لسنوات طويلة بائسة قادمة.
يتبع …
المصدر: صحيفة التغيير