أحمد عثمان جبريل

في لحظة يترنح فيها السودان بين الحرب والانهيار، ويحاول قادته إشغال الرأي العام بقضايا رمزية لا علاقة لها بجوهر الأزمة، يبرز طرح تغيير العلم كقضية تكشف عمق الأزمة أكثر مما تخفيها.. فحين تنشغل السلطة بالرموز بينما المدن تتساقط، يصبح السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام محاولة للهروب من مواجهة الحقيقة أم محاولة لإعادة تشكيلها؟

حين تعجز السلطة عن معالجة الواقع، تبدأ في العبث بالرموز

نيتشه

(1)

في ظل سقوط مدينة تلو أخرى، وامتداد الخراب من الوسط إلى الأطراف، يخرج عبد الفتاح البرهان ليطرح فكرة تغيير علم السودان والعودة إلى علم الاستقلال.. إنها ليست مجرد فكرة رمزية عابرة، بل خطوة تُقرأ في سياق سياسي مشحون، حيث تحاول السلطة حرف النقاش العام بعيدًا عن السؤال الجوهري: (كيف تنتهي الحرب؟).. إن طرح هذا الموضوع في ذروة الانهيار الأمني والخدماتي يشبه فتح نافذة للهواء، بينما الجدران كلها تتداعى. وفي الواقع، ليس المهم أي علم يُرفع على سارية الدولة، بل أي دولة تبقى لتُرفَع فوقها الراية.

(2)

المعضلة ليست في ألوان العلم ولا في شكل رايته، بل في (التوقيت ودلالاته).. فالتوقيت في السياسة هو المعنى نفسه، ولا يمكن تجاهل حقيقة أن البرهان اختار هذه اللحظة تحديدًا ليطلق مبادرة رمزية تحاول استعادة المخزون العاطفي لمرحلة الاستقلال.. لكن كيف يمكن لرمز أن يُصلح واقعًا يتشظى؟ وكيف يمكن لعلمٍ (جديد قديم) أن يعالج انعدام الأمن، وغياب الدولة، وانقسام الجيش، وتآكل المؤسسات؟.. إن الحديث عن تغيير العلم اليوم يبدو أقرب إلى محاولة لإعادة صياغة المسرح الوطني على نحو يجمّل الحدث، لا يعالجه.

(3)

ثم إن مسألة تغيير العلم ليست حقًا لقائد عسكري، ولا قرارًا يُتخذ من فوق منصات الحشود؛ إنها “قضية تشريعية خالصة” من اختصاص برلمان منتخب.. فالعلم رمز سيادي، يُعبّر عن الأمة لا عن السلطة، وعن الشعب لا عن القادة.. ولا يحق لأي مسؤول، مهما يعلو موقعه، أن يقرر هوية الدولة البصرية دون تفويض شعبي أو مؤسسي.. والسؤال هنا يصبح أكثر إلحاحًا:”أي برلمان يملك البرهان شرعيته؟ وأي تفويض شعبي يتيح له تغيير رمز الدولة، بينما الشعب نفسه مشرّد في المنافي الداخلية والخارجية؟”.. غياب الشرعية يجعل الطرح كله يبدو كأنّه محاولة لخلق مشهد وطني بديل، لا لتمثيل الإرادة الوطنية الحقيقية.

(4)

المفارقة أن البرهان يطرح قضية العلم بالتزامن مع موقفه الرافض لأي حل سياسي لا يتضمن تفكيك قوات الدعم السريع، ومع دعوته لمن يريد حمل السلاح للانضمام إلى القتال. هذه اللغة تعبّر عن عقلية تعبئة مفتوحة، وتحوّل الحرب إلى مشروع دائم. وفي هذا السياق، يصبح تغيير العلم جزءًا من استراتيجية توظيف الرموز لتغليف الصراع بطابع وطني، وكأنه استمرار لمعركة التحرر الوطني. وهذا خطأ تاريخي وسياسي؛ فالحرب الحالية ليست معركة استقلال جديدة، بل نتيجة مباشرة لانهيار الدولة وانقلاب سياسي عطّل مسار الانتقال.

(5)

والصحيح أن ما يحتاجه السودان ليس تبديل العلم، بل (تبديل الأولويات: وقف الحرب، إعادة بناء المؤسسات، حماية المدنيين، وإيجاد صيغة سياسية تُعيد للدولة وجودها).. أما اختلاق معارك جانبية حول رموز الدولة، فليس إلا شكلاً من أشكال الهروب للأمام.. فكيف يمكن لشعب محاصر بالجوع والنزوح وانعدام الخدمات أن يضع قضية العلم ضمن أولوياته؟ وما جدوى رمزٍ جديد إذا كانت الأرض نفسها التي يُرفع فوقها مهددة بالتشظي؟

(6)

إن السؤال الأهم هنا هو: ما الحكمة السياسية الحقيقية من طرح تغيير العلم الآن؟

من الواضح أن البرهان يحاول استعادة قدر من الشرعية عبر استدعاء رمزية الاستقلال، وربط نفسه بتاريخ الدولة الأولى، في مواجهة خصوم يصفهم بالتمرد.. إنه صراع على احتكار الوطنية، أكثر منه نقاش حول هوية العلم.. كما أن الطرح قد يكون محاولة لإرباك المشهد الإعلامي، وإشغال الرأي العام بنقاشات جانبية تُخفي حقيقة الانهيار العسكري والسياسي الذي تعيشه البلاد.

(7)

بقي أن نقول:” تغيير العلم يبقى مشروعًا لا يكتسب شرعية إلا حين يكون جزءًا من عملية سياسية جامعة، يقودها برلمان منتخب ودولة مستقرة، لا سلطة انتقالية تترنح وسط الحرب. وقضية بهذا الحجم لا تُعالج بقرارات فوقية، بل بإرادة شعبية حقيقية.. أما طرحها الآن، في قلب الخراب، فلن يغيّر شيئًا من الواقع، ولن يعيد المدن التي سقطت، ولن يوقف النزيف.. ولن تكون لنا ملهاة عن قول رصد مؤامرات الحركة الإسلامية.. كل ما سيفعله هو إضافة طبقة جديدة من الضباب فوق المشهد.. والسودان اليوم لا يحتاج مزيدًا من الضباب، بل يحتاج إلى وضوح الرؤية، ومسؤولية ومسار يعيد الدولة إلى الناس، لا علمًا جديدًا يوضع فوق دولة تتفكك.. إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.