تغريدة كشفت.. ومصادر أكدت
أحمد عثمان جبريل
ليست كل الحروب تُخاض بالسلاح، ولا كل مسارات السلام تُعلن في وضح النهار.
ما يجري في الظل أحيانًا، هو ما يملك القدرة على كسر الجمود، وإعادة هندسة الأمل.
هذا المقال محاولة للاقتراب من تلك التحركات غير المعلنة التي بدأت تتشكّل، بهدوء، بين فاعلين حقيقيين في المشهد السوداني.
ما بين تسريبات وتأكيدات، وشواهد تتقاطع بين الداخل والخارج، نحاول هنا أن نقرأ ما لم يُكتب بعد، وأن نستبق اللحظة التي قد تصبح عنوانًا جديدًا لبداية سودان مختلف.
❝السلام ليس أن تُسكت البنادق، بل أن تُنصت القلوب لبعضها البعض.❞
جبران خليل جبران
1
في الوقتٍ الذي تتقاطع فيه مسارات الحرب والأمل في السودان، وتتشابك الخطوط بين الانقسام والسعي نحو التلاقي، تبرز إشارات تحمل بين طياتها ملامح تحولات حقيقية في المشهد السياسي والإنساني على السواء. فبحسب ما أفضت به مصادر رفيعة في تحالفي «صمود» و«تأسيس» فقد شهدت الأيام الماضية فعلا، لقاءات غير مسبوقة بين قيادات بارزة في هذين التحالفين وعدد من أعضاء مجلس السيادة، في محاولة وُصفتها ذات المصادر بأنها اختبار جاد لإمكانية فتح مسار للحوار المباشر، يعيد ترتيب أولويات الحرب، ويفتح بابًا لتسوية طال غيابها.
2
وقد أكدت المصادر، التي تحدثت إلينا، انعقاد تلك اللقاءات فعلاً مع المكون العسكري تحديدًا، في خطوة غير معلنة، مبينة بأنها جاءت متسقة تمامًا مع ما كشفته تغريدة لافتة نُشرت أمس لرئيس تحرير صحيفة “السوداني”.. التغريدة بدت إشارة مبكرة إلى ما يجري خلف الأبواب المغلقة، وهو ما أكدته لاحقًا مصادر مطلعة من داخل التحالفين، مشيرة إلى أن هذه اللقاءات ليست معزولة بل “مبنية على تفاهمات داخلية بدأت تنضج في صمت”.
3
وفي موازاة هذا الحراك الداخلي، أفادت مصادر دبلوماسية متقاطعة أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” أجرى زيارة إلى دولة عربية مهمة خلال اليومين الماضيين، ناقش فيها تطورات الوضع في السودان وسبل تفعيل الوساطات الإقليمية. ووصفت هذه اللقاءات بـ”الإيجابية” وقالت إنها قد تفتح المجال أمام دعم دولي أكثر تنسيقًا، يواكب الحراك الجاري داخل السودان نفسه.
4
هذه التطورات جاءت في وقت تعمل فيه الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي، على إعادة تفعيل المسار السياسي السوداني على قاعدة جديدة.. حيث تشير المعطيات إلى أن الفاعلين الإقليميين والدوليين باتوا أكثر حسماً في ضرورة كسر الجمود، وعدم ترك المشهد رهينة لأجندات تعرقل فرص السلام أو تحوّله إلى تفاهمات فوقية لا تعالج جذور الأزمة.
5
غير أن هذه التحركات لم تمر دون انزعاج في معسكر الإسلاميين، الذين يرون في أي مفاوضات تجري خارج إشرافهم أو معرفتهم تهديدًا وجوديًا لموقعهم في مستقبل السودان. وتقول مصادر مطلعة إن التسريبات التي بدأت تظهر حول هذه اللقاءات، تُشبه إلى حد كبير ما جرى سابقًا من تسريبات تتعلق بمفاوضات المنامة، وإن هناك أصابع معروفة من داخل تيار الإسلاميين هي من قامت بذلك عمدًا لعرقلة المسار، وخلط الأوراق إعلاميًا قبل نضجها سياسيًا.
6
وتضيف ذات المصادر، أن المكون العسكري، بخلاف ما يروَّج في بعض الدوائر، يبدو اليوم “على قلب رجل واحد” في مقاربته للحوار، وهو ما يُقلق التيار الإسلامي، الذي اعتاد الرهان على التناقضات داخل المؤسسة العسكرية.
ويبدو أن هذا الانسجام النسبي أضعف قدرة الإسلاميين على المناورة، وجعلهم في موقع دفاعي مع تزايد الضغط الرباعي والدولي عليهم لتقليص نفوذهم في المشهد، في عملية تشبه بشكل متدرج ما جرى مؤخرًا مع حركة حماس في قطاع غزة، من تحجيم سياسي وعزلة إقليمية ودولية، انتهت بهم إلى خروجهم من المعادلة السياسية وتسليم سلاحهم.
7
وبينما تستمر اللقاءات في الظل، يتساءل كثيرون: هل نحن أمام لحظة انفراج حقيقي؟ أم مجرّد جولة أخرى من محاولات جس النبض؟.. المؤشرات حتى الآن توحي بأن الحراك هذه المرة أكثر جدية، وأكثر تماسكًا من سابقاته، خصوصًا في ظل انخراط عناصر من عمق القوى المتصارعة، وليس من الأطراف غير المؤثرة.
8
ما يعزّز جدية هذا المسار هو وجود إرادة إقليمية واضحة في الدفع نحو تسوية، بالإضافة إلى أن القوى المحلية باتت تدرك تدريجيًا أن الحرب لم تعد تُنتج واقعًا جديدًا، بل تستنزف الجميع.. ومع هذا الفهم المشترك، تصبح طاولة الحوار أقل تكلفة من كلفة الميدان، وأقل إيلامًا من دوامة التصعيد المفتوح.
9
إن ما يجري اليوم، برغم طابعه الهادئ، قد يكون البذرة التي طال انتظارها، والتي يمكن أن تُثمر إذا ما جرى تحصينها من التسريبات، ومن محاولات الإرباك السياسي.. الشعب السوداني، الذي أنهكته الحرب، يستحق مسارًا مختلفًا، يُبنى على الإنصات، لا على الاستعراض. وهذه الاختراقات، مهما بدت متواضعة، قد تكون بداية لانعطافة وطنية، يتقدّم فيها صوت الوطن على صدى السلاح.
إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير