اخبار السودان

تصريحات الفريق العطا.. تصعيد محسوب أم مغامرة

التصريحات الأخيرة للفريق أول ياسر العطا، مساعد قائد الجيش، التي تتهم دولاً بعينها بالضلوع في الصراع السوداني، بل وتذهب إلى حد التهديد بالقصاص منها وبضربات عسكرية ضدها، تكشف عن نهجاً سياسياً تصعيدي، قائماً على دفع الطرف الآخر على اتخاذ مواقف لا يرغب فيها، وهذا النوع من التفكير والسلوك السياسي يُعرف بـ “الإجبار الاستراتيجي” (Strategic Compellence) أو “الإكراه السياسي” (Political Coercion) وهو نهج يستخدم الضغط المباشر أو غير المباشر لدفع الخصم إلى اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الطرف الذي يمارس الاستراتيجية، حتى لو كان ذلك على حساب رغباته أو مصالحه.

تقوم هذه الاستراتيجية على استدراج الخصم إلى مواقف يصعب عليه التراجع منها، أو دفعه لاتخاذ خطوات تتماشى مع أجندة الطرف الآخر، دون أن يبدو ذلك كتنازل صريح منه، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التضييق التدريجي، والتصعيد المتدرج، أو خلق أوضاع لا تحتمل إلا خياراً واحداً تقريباً، كما حدث مع دولة تشاد مؤخراً، مما يجعل الخصم يظن أنه يتصرف وفق إرادته ومصالحه، بينما هو في الواقع يخضع لتخطيط محكم من قبل الخصم.

وفي السياق السياسي والعسكري، يتم استخدام هذه الاستراتيجية عبر فرض وقائع على الأرض تجعل الخيارات أمام الخصم محدودة، وخلق أزمات مدروسة تدفعه لاتخاذ قرارات متسرعة، ليتم استغلالها من خلال التناقضات الداخلية لجره إلى مسارات معينة، وأحد التطبيقات البارزة لهذه الاستراتيجية كان في الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يمارسان سياسات تضييق وإكراه استراتيجي على بعضهما البعض لدفع الطرف الآخر إلى اتخاذ خطوات غير مرغوبة له ولكنها ضرورية وفقاً للمعطيات المفروضة عليه.

على هذا الأساس، لا يصح النظر لما يقوم به العطا من تصريحات من وقت لآخر، على أنه خطاب سياسي متشنج، وذلك لكونه أمر مدروس ومحسوب وجزء من استراتيجية تهدف إلى دفع الأطراف المستهدفة لاتخاذ مواقف معينة، سواء بالتصعيد أو التراجع، بحيث تصب في مصلحة السلطة العسكرية في السودان، من خلال التصريحات العدائية والتهديدات المباشرة.

وهنا يبرز السؤال المنطقي: إلى ماذا يسعى العطا وأعوانه من استعداء بعض الدول وإجبارها لإظهار العداء تجاه الجيش وهو أحد أطراف الصراع في السودان؟.

للإجابة على السؤال أعلاه يجب الرجوع إلى السردية الأساسية للجيش، والتي تقوم على فرضية التآمر الدولي والاقليمي على السودان، ومن خلال إبراز الخلاف مع بعض الدول المحيطة يتم تأكيد تلك السردية، من ثم إجبار الدول المستهدفة على تغيير مواقفها أو تعديل سياساتها تجاه الأزمة السودانية، إما عبر التراجع عن دعمها لأطراف معينة أو عبر الانخراط في تفاهمات تخدم السلطة العسكرية، بالإضافة لأن أي إتجاه لخلق بيئة تصعيدية من شأنه أن يُوسع دائرة الصراع ليصبح إقليمي، وهذا قد يُجبر المجتمع الدولي على التدخل، مما يمنح تحالف الجيش العسكري فرصة لإعادة ضبط ميزان القوى في الصراع الداخلي، ومن جانب آخر يسعى العطا من وراء تلك التصريحات لإعادة توجيه الرأي العام السوداني، من خلال تحويل الأنظار عن الأوضاع الداخلية المأزومة إلى خطر خارجي مُتخيَّل أو مُضخَّم، يُستخدم كذريعة لتبرير قرارات سياسية وعسكرية قادمة، وذلك بعد جر الدول المستهدفة إلى ردود فعل متسرعة، يمكن توظيفها لاحقًا لتبرير تحركات عسكرية أو دبلوماسية تخدم مصالح السلطة.

إستراتيجية الإكراه السياسي ليست جديدة في السياسة السودانية، ولكن في ظل الظروف الراهنة تبدو كمحاولة خطيرة لإعادة رسم قواعد اللعبة السياسية والعسكرية عبر التصعيد اللفظي والميداني، في الوقت الذي يواجه فيه السودان أزمات داخلية حادة تتطلب حلولاً أكثر حكمة وواقعية، وعلى ما يبدو أن الحكومة التشادية قد وقعت بالفخ وأجبرت بالفعل على التصعيد بعد أن قررت بالفعل طرد طاقم السفارة السودانية من أراضيها، بعد أن اعتبرت تصريحات مساعد القائد العام للجيش السوداني، ياسر العطا، بمثابة “إعلان حرب”، وهذا التصعيد من قبل الجانبين يعكس بشكل واضح حجم التوتر المتزايد بين الخرطوم وانجمينا، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن صراعات داخلية في معسكر السلطة ببورتسودان، حيث تتباين الرؤى حول كيفية إدارة العلاقات الخارجية وتحديد التوجهات السياسية.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطلق فيها ياسر العطا تصريحات تثير الجدل، ففي عدة مناسبات، بدا وكأنه يمارس سياسة فرض الأمر الواقع، سواء في الداخل السوداني أو تجاه الأطراف الإقليمية، ففي ديسمبر الماضي، هاجم العطا ما أسماه “بالدولة العميقة” واتهم جهات داخلية وخارجية بمحاولة عرقلة مسار الجيش، وفي وقت سابق أدلى بتصريحات قوية ضد كينيا، وإثيوبيا، والإيقاد، مستخدماً لغة حادة تعكس توجهاً تصعيدياً مستمراً، واليوم، تضع تصريحاته بشأن تشاد السودان في موقف دبلوماسي حرج، في وقت تعاني فيه البلاد من عزلة دولية متزايدة.

يرى المتابعون أن تصريحات العطا ليست زلات لسان أو تخبط سياسي كما حاول البعض أن يصفها ، بل استراتيجية تهدف إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة، أو على الأقل جس نبض الفاعلين الإقليميين، وفي المقابل، يرى البعض أن هذه السياسة تكشف غياب الانسجام داخل معسكر السلطة في بورتسودان، حيث تتباين المواقف بين من يسعى إلى نهج تصالحي مع الجوار الإقليمي، ومن يدفع باتجاه مواقف أكثر حدة، وربما في محاولة لاستقطاب دعم داخلي أو تأكيد السيطرة على المشهد السياسي.

تعتبر تشاد لاعب محوري في معادلة الصراع السوداني، حيث ترتبط بأطراف متعددة داخله، من قوات الدعم السريع إلى جماعات المعارضة المسلحة، لذا، فإن رد فعلها الحاد على تصريحات العطا قد يكون رسالة مزدوجة لرفض أي تصعيد من جانب الخرطوم، وتحذير ضمني من أن نجامينا لن تقف مكتوفة الأيدي إذا استشعرت تهديداً لمصالحها.

ومن هنا تبرز عدة احتمالات كسيناريوهات متوقعة، فمن المحتمل أن ترد الخرطوم بالمثل وتقوم بطرد الدبلوماسيين التشاديين، مما قد يزيد من تعقيد العلاقات بين البلدين، وقد تلجأ إنجمينا إلى البحث عن دعم من أطراف إقليمية أخرى، مثل فرنسا أو الاتحاد الإفريقي لزيادة الضغط على السودان، وقد تؤدي هذه الأزمة إلى مزيد من الانقسامات داخل معسكر بورتسودان، خصوصاً إذا ما قررت اطراف أخرى داخل معسكر السلطة ببورتسودان لتبني مواقف مغايرة لموقف العطا.

قرار تشاد بطرد الدبلوماسيين السودانيين جاء كرد فعل على تصريحات ياسر العطا، وهو بالتأكيد مؤشر واضح على هشاشة العلاقات السودانيةالتشادية، بالاضافة لأنه مؤشر على حالة عدم التوافق داخل معسكر السلطة في بورتسودان.

ويبقى السؤال: هل ستمضي القيادة السودانية في هذا النهج التصعيدي، أم ستسعى إلى تصحيح المسار قبل أن تنعكس هذه التوترات على الأوضاع الداخلية؟

الأيام القادمة ستكشف الكثير.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *