أطياف
صباح محمد الحسن
طيف أول:
كلمةٌ تأرجحت من أردان الجدار، وقولٌ فقد بريقه ما بين التوجس والطمأنينة..
ويبدو أن يقظة الضمير الإنساني لدى بعض المسؤولين في الحكومة لا تأتي إلا بعد مغادرتهم مواقع السلطة.
ووزير الخارجية السابق، علي يوسف الشريف، جسّد هذه اليقظة المتأخرة في تصريحاته لقناة الجزيرة، بلغة جديدة ترى الحرب أداةً للقتل والدمار، يعاني منها المواطن ويلات الموت والدمار، حيث قال الوزير الذي تم إعفاؤه من منصبه في أبريل الماضي، متحدثًا عن ضرورة السلام والعودة إلى طاولة التفاوض، مستندًا إلى حقيقة دامغة أن الحرب لا تحصد سوى أرواح المواطنين السودانيين.
ووجّه الشريف رسالة مباشرة إلى الفريق عبد الفتاح البرهان، دعاه فيها إلى اتخاذ قرار شجاع بالسلام دون تردد، وحثّ الحكومة على النظر بجدية في المبادرة التي طرحتها المجموعة الرباعية. هذا الموقف، وإن جاء متأخرًا، يكشف أن البرهان قد أهدر فرصًا عديدة للسلام بسبب التردد، والتردد هنا لا يعني رفض السلام، بل الخوف من تبعاته. وهو تأكيد واضح أن “قرار السلام يتخذه الشجعان، أما الحرب فهي خيار الجبناء”.
والمفارقة أن الشريف لم يرَ في الحرب خيارًا غير حكيم إلا بعد أن غادر منصبه، وكأن المنصب كان يحجب عنه رؤية الواقع.
وهذا يؤكد أن الإيمان بالحرب، بالنسبة للمسؤولين في حكومة البرهان، ينتهي بانتهاء علاقة الوزير بالحكومة.
ففي نوفمبر 2024، حين كان الشريف وزيرًا للخارجية، صرّح بأن الجيش على وشك حسم المعركة خلال ثلاثة أشهر، مؤكدًا استحالة الحل السياسي، مشددًا على أن أي تسوية يجب أن تقوم على استسلام قوات الدعم السريع. وفي مقابلة مع “بي بي سي”، رفض الشريف حينها أي تفاوض، معتبرًا أن استقرار السودان لا يتحقق إلا بالقضاء على التمرد واستعادة السلطة، وأن الدولة السودانية تخوض قتالًا ضاريًا “لا يمكن التفاوض على مستقبل السودان مع ميليشيا متمردة”.
وحتى المبادرات الدولية، التي دعا أمس إلى قبولها، كان يرفضها، إذ قال في مقابلة سابقة (إن أي مبادرة لا تضع إنهاء التمرد كشرط أساسي فهي غير مجدية، مؤكدًا استمرار الجيش في عملياته لاستعادة السيطرة الكاملة على البلاد.
وعودة الشريف إلى رشده السياسي، وإن جاءت متأخرة، تُعد خطوة إيجابية كخطاب سلام يطالب بوقف الحرب اللعينة، لكنها في ذات الوقت تثير تساؤلات موجعة: ماذا حدث في الفترة ما بين تصريحات الوزير الأولى وتصريحاته الأخيرة..!
كم من الأرواح السودانية أُزهقت..!
وكم من المواطنين ماتوا جوعًا ومرضًا خلال عام وما حجم المعاناة المتراكمة على المواطن الذي لا يجد ثمن العلاج والخبز !
أليس كان من الأولى أن يُصدح بالحق وهو في موقع المسؤولية!!
ولو قال الشريف هذا الكلام وهو وزير، لكان لصوته أثر وقيمة، وأقصى ما كان سيخسره هو المنصب، لكنه كان سيكسب احترام الشعب.
لقد غادر الشريف منصبه وهو يردد خطابًا سلطويًا، لا خطابًا وطنيًا، ولم يشفع له ذلك عند البرهان، ولم يكن له حصن من الإعفاء. فإن المنصب الذي خشي فقدانه بقول الحق، فقده بقول الباطل.
فبالرغم من أن الوزير كان يعمل على تزييف قناعاته الشخصية بضرورة السلام، ويدعو للحرب عندما كان وزيرًا، إلا أننا نجد أنه، ورغم ما قدّمه للحكومة من تصريحات تخدم خط الحرب وكانت سببًا في طول أمدها، غادر منصبه أيضًا بسبب تصريح لم يعجب الحكومة عندما تحدث قائلًا “إن الحرب إما أن تنتهي بانتصار طرف على الآخر، أو بالاتفاق الذي تم بانسحاب قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم إلى مناطق يمكن أن ترحب بوجود هذه القوات، وهي مناطق قبلية مرتبطة بهذه القوات”. التصريح الذي عدّته السلطات سببًا في كشف أسباب انسحاب الدعم السريع من الخرطوم، لطالما أنها قالت إن الحسم والمعارك هي التي أخرجت الدعم السريع من العاصمة.
فكم شريفاً في حكومة البرهان يمنعه المنصب من كلمة الحق، وكم من دعاة الحرب تمنعهم المصالح والمواقف السياسية، وكم مدركاً للخطأ بعد فوات الأوان ينقصه الاعتراف، وكم جاهل بوزره أنه كان سببا في هذا الموت والدمار.
طيف أخير
ضغوط كيزانية على موقع إلكتروني شهير بعدم نشر زاوية “أطياف”، ومقترح “وسط” على أن يتم نشر الزاوية عندما لا يطول النقد تيارًا إسلاميًا معينًا (يهم أصحاب القرار)، وعندما يكون ضد تيار إسلامي آخر يتم نشره للحفاظ على المصداقية وثقة القارئ.
ومن هنا لكل المواقع الإلكترونية التي تخضع لسلطة وكلمة الكيزان، وتعود إليهم بالربح والفائدة يُمنع نشر هذه الزاوية.
المصدر: صحيفة التغيير