ترمب يختصر الطريق!

النور حمد
العالم على أعتاب تحوِّلٍ كوكبيِّ كبير، يجيء خلافًا لكل التوقعات التي سادت مع نهاية حقبة الحرب الباردة وصعود القطب الواحد. فنحن الآن أمام منعطفٍ تمور فيه شؤون العالم موْرًا، وتنهار فيه الأيديولوجيات، ويهتز فيه الإيمان بكثيرٍ من المسلَّمات التي لطالما ألفها الناس، وأوشكت أن تتحول إلى عقائد جامدة. وعلى رأس تلك المسلمات أن التقدم الاقتصادي والتنموي وتحقيق العدالة الاجتماعية مرتبطة، جميعها، ارتباطًا شرطيَّا بالأنظمة الديمقراطية. لقد أخذت معالم هذه اللحظة الفارقة في التاريخ المعاصر تتضح منذ بداية هذا القرن، الذي انتهى الربع الأول منه، الآن، كما اللَّمح بالبصر. ومن أبرز معالم هذه اللحظة التاريخية ما أصبح باديًا للعيان من تراجع الإمبراطورية الأمريكية وظهور علامات خروجها من منصة الهيمنة التي تربَّعت عليها منذ بدايات القرن العشرين، وخاصةً عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. ولقد كان هذا التقهقر على مستوى الكوكب انعكاسٌ لتآكل في الداخل كان لا ينفك يتصاعد باضطراد. فالهيمنة الأمريكية على العالم تسير، فيما يبدو حاليًّا، في وجهة الانكماش والتقزَّم، مثلما انكمشت وتقزَّمت قبلها هيمنة الإمبراطورية البريطانية في القرن العشرين.
حتمية التراجع الأمريكي
ما من شككٍّ أن تراجع أمريكا عن مقعد الهيمنة الذي جلست عليه لما يقارب القرن، أمرٌ حتميٌّ فرضه استنفاد حقبة الحداثة الغربية لكل طاقاتها الخلاقة التي أبقتها على هذا المقعد عبر القرون الثلاثة الأخيرة. فطاقة الدفع التي انطلقت مع بواكير حقبة الحداثة وأبقت المركزية الغربية في مقعد الهيمنة العسكرية والاقتصادية والفكرية والثقافية، على مستوى الكوكب، ومثَّلت أمريكا التجسيد الأكبر لركائزها، قد أخذت تضمحل. وهذه سيرورةٌ طبيعيةٌ تدخل ضمن السيرورة الطبيعية التي تحكم الكون ومجراته، وتحكم الطبيعة وعناصرها؛ من غازٍ وسائلٍ وجماد، وكائنات حية. فكل الوجود؛ المرئي منه وغير المرئي، والمعلوم منه وغير المعلوم، يمر بمراحل، تشبه مراحل حياة الإنسان والحيوان والنبات، التي تتمثَّل في: الطفولة، فالصبا، فالشباب، فالكهولة، فالشيخوخة، ثم الموت. ولا يعني الموت فيما نحن بصدده من تراجع الحضارة الأمريكية الفناء التام لها، وإنما يعني إخلاء المقعد والمِقْوَد الذي جلست عليه طويلًا لجهةٍ أخرى صاعدة. فالوجود البشري على ظهر الأرض لا يزال يسير، في جملته، في المسار الصاعد، رغم التراجعات التي تبدو في الجزئيات، هنا وهناك. وفي هذا المسار تتبادل الأمم والحضارات الإمساك بموقع الريادة ومِقْوَدِ القيادة. ويبدو أن الصين قد أخذت تمسك بهما الآن.
لم تعد هناك وسيلةٌ يمكن لأمريكا أن توقف بها هذا التراجع، لأن عوامل هذا التراجع مندغمةٌ أصلاً في بنيتها، وقد فعلت هذه العوامل فعلها وقادت الأمور إلى ما يبدو أنها بداية الفصل الأخير. وهذا ما يجري التعبير عنه بأن الشيء، أي شيء، إنما يحمل بذور فنائه في داخله. فكل المؤشرات تشير إلى أن الصين قد أخذت تتقدم للإمساك بالمِقْوَد، مصطحبةً معها العديد من الدول الناهضة التي أخذت تتحلَّق حولها، رابطةً مصيرها بمصير الصين، مستشردةً بأنموذجها الاقتصادي والتنموي، الذي لا تمثل القوة العسكرية فيه أداةً معتديةً، وإنما أداةً حامية. هذه الأمم الصاعدة هي التي طالما جأرت بالشكوى، على مدى قرنٍ كاملٍ، من الهيمنة الأمريكية، ومن تعطيلها المتعمَّد لاستقرار ونمو وتقدُّم الشعوب. وكذلك، إدمانها إشعال الحرائق في أطراف الأرض لخدمة مجمعها الصناعي العسكري الضخم، المسيطر على صناعة القرار الأمريكي، والقائم على فرض الرؤية الأوكسدنتالية الضيقة، التي ترى أن الكسب لا يقوم إلا على خسارة الآخرين.
امتحان العقيدة في الديمقراطية
مما يربك المفاهيم، وينسف إنماط الإيمان التي سادت في حقبة الحرب الباردة، أن الديمقراطية، التي جرى الترويج لها بأنها شرطٌ لا مندوحة عنه لتحقيق التنمية والتقدم والازدهار، لم تسفر في نهايات مسارها، خاصةً في الأنموذج الأمريكي، سوى عن أداةٍ حاميةٍ لأطماع المُلاَّك وجشعهم. وقد أدى هذا إلى مراكمة الأموال في خزائن قلة من المليارديرات، الأمر الذي قاد إلى إضعاف دور الدولة في خدمة الصالح العام، وإلى تراجعٍ معدلات التنمية وانحسار رقعة العدالة الاجتماعية باضطراد. وقد أظهر كل هذا، في المحصلة النهائية، أن النظام الديمقراطي لم يكن من الناحية العملية إلا مجرد أداةٍ للتضليل وللتخدير وسيطرة المليارديرات على كل شيء. وهكذا ضعفت، أو قل تبخرت الحجة التي طالما ردده كثيرون، وهي: إن الديمقراطية تُعدِّل مسارها بنفسها. والآن، في الوقت الذي تنمو البنى التحتية والبنى التقنية والصناعية في الصين بمتوالية هندسية، نجد أن كل تلك الجوانب تتراجع في أمريكا باضطراد لافت. فقد شاخت البنى التحتية الأمريكية وتخلَّفت، وتقلص دور الدولة في حماية النمو والتجديد وحراسة المصلحة العامة. فقد هربت الصناعات من أمريكا فلم تعد أمريكا تنتج سوى في قطاعات محدودة. في الجانب الآخر من الكوكب، اعتنق الحزب الشيوعي الصيني، مع شموليته، اقتصاد السوق، وحقق عن طريقه قفزاتٍ تنمويةٍ مذهلة وجعل من الصين مصنعًا لكل العالم وأدخل ربع سكان الصين إلى الطبقة الوسطى في عقودٍ قليلة. هذه القفزة المذهلة تقول كل المؤشرات إن الصين سوف تتربع بها، في وقتٍ قريبٍ جدًا، على عرش كل فعلٍ جديدٍ خلاق، وإن الصين سوف تخلق كتلة دولية جديدة ونظامًا ماليًا كوكبيًا موازيًا، لن يلبث أن يسدل الستار على برادايم نمط الحكم الغربي السائد حاليًا بكل مكوناته.
ترمب هو يلتسين أمريكا
مثلما يحمل كل شيءٍ بذور فنائه في داخله، كذلك أفرزت الحضارة الأمريكية الرئيس الحالي، دونالد ترمب، ليقوم بضرب آخر مسمارٍ في نعش الهيمنة الأمريكية. وقد سبقه على هذا الدرب بوريس يلتسين الذي فكك الاتحاد السوفييتي بين عشيَّةٍ وضحاها. فكلا الرجلين نتجا من بذور الفناء التي حملتها بنية دولتيهما في داخلها. واللافت هنا أن الصين حين تخلَّت عن الشيوعية صعدت، في حين تقزَّم الاتحاد السوفيتي وتفكك وخرج من دائرة الفعل المؤثر في مجريات ما يحدث في الكوكب. عملت النخب الأمريكية التي خلقت حضارةً محركها وغايتها الربح، على إطلاق يد الرأسمال. كما استخدمت الميديا لتجهيل الشعب وصرفه عن الفهم الصحيح للشؤون العامة وتدجينه، عبر إغراقه في مستنقع الاستهلاك، لينال الرأسمال نصيب الأسد من ثروات البلاد ويبقى الشعب في مستنقع القنانة القديمة، لكن في ثوب حداثيٍّ براقٍ خادع. فبسبب التجهيل المتعمد الذي تمارسه أجهزة الإعلام المملوكة للأثرياء ومن معهم من أصحاب المصالح، تراجعت الفهوم وسط العامة واستعد المسرح لاستقبال قائدٍ شعبويٍّ يحرك الغرائز البدائية. فجاء ترمب وفاز لدورتين انتخابيتين فصلت بينهما أربع سنوات، عادت فيها السلطة إلى الحزب الديمقراطي. لكن، فشل الرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس في نيل أربع سنوات أخرى للحزب الديمقراطي في الحكم. وعاد دونالد ترمب إلى السلطة من جديد رغم كل ما أحاط به من إدانات قضائية، ومن جهود إعلامية ضخمة لاغتيال شخصيته. فشلت جميع تلك الجهود في أن تفقده شعبيته، فصعد إلى السلطة من جديد، باختيار الشعب. هذه العودة المظفرة فتحت شهيته على آخرها ليعبر من تحكُّمه في أمريكا إلى تحكُّمٍ اقتصاديٍّ على كل الكوكب، وفقًا لفرضياتٍ خاطئة سوَّلها له جهله الشديد ونرجسيته ورعونته. أتى دونالد ترمب إلى مناصب الدولة العليا بمعاونين من شاكلته وشنَّ بهم حربًا اقتصادية على كل العالم عبر تعرفاتٍ جمركية بالغة العلو، شملت حتى جيرانه في كندا المكسيك. ويرى كثيرون ومن بينهم ريشارد وولف، وهو أستاذ جامعي واقتصادي ماركسي معروف أن أمريكا لن تنجو من هذه الأزمة التي أدخلها فيها دونالد ترمب. لقد كانت الإمبراطورية الأمريكية، في طريقها إلى الاضمحلال، ولقد كان من الممكن أن يستمر اضمحلالها لفترة طويلة. لكن، أوصلت بنيتها المختلة رجلاً مثل دونالد ترمب إلى قمة السلطة، ليختصر الطريق للأمريكيين ليعرفوا أن ديمقراطيتهم زائفة وقد ظلت تعمل باستمرار ضد ما بشرتهم به. كما سيختصر ترمب الطريق لبقية العالم ليخرج من ربقة هذه الهيمنة الأمريكية المُكبِّلة. وهكذا سوف يفعل ترمب بأمريكا، ما فعله يلتسين بالاتحاد السوفييتي.
أفق جديد
المصدر: صحيفة الراكوبة