اخبار السودان

تحول استراتيجي حرج في بورتسودان، هل يودع الجيش السوداني حقبة المليشيات؟

✍️ محمد هاشم محمد الحسن

منذ اندلاع شرارة الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، شهد السودان تحولات دراماتيكية كشفت عن تعقيدات المشهد العسكري والسياسي. لكن الأنباء الأخيرة التي نقلتها بعض المنصات الإخبارية،  عن إيقاف الجيش تزويد الكتائب والجماعات المسلحة المتحالفة معه بالسلاح منذ مطلع مايو الجاري، ومراجعة إجراءات التجنيد، تشير إلى ما قد يكون تحولاً استراتيجياً عميقاً وحرجاً، يفتح الباب أمام تساؤلات مصيرية حول مستقبل الحرب، ومآل التحالفات، ودور المؤسسة العسكرية ذاتها.

إن قرار وقف تزويد المليشيات بالسلاح ليس مجرد إجراء إداري عابر، بل هو خطوة ذات أبعاد استراتيجية وسياسية وعسكرية بالغة الأهمية. لسنوات طويلة، اعتمد الجيش السوداني، خاصة في عهد النظام السابق، على شبكة معقدة من المليشيات والكتائب غير النظامية، بما في ذلك تلك المرتبطة بالحركة الإسلامية، لتعويض النقص في القوى البشرية أو لتنفيذ مهام قتالية حساسة، أو حتى كأذرع سياسية موازية. هذا الاعتماد خلق هيكلاً عسكرياً هجيناً، تتداخل فيه خطوط الولاء وتتعدد فيه مراكز القوى.

يُمكن فهم هذا التحول الجذري في سياق جملة من الدوافع المتشابكة، وإن كان التوقيت يثير تساؤلات حول كونه مناورة لكسب الوقت أو استجابة لضغوط حتمية. على الصعيد العسكري، وبعد مرور أكثر من عامين على الحرب، لم يتمكن أي طرف من حسم الصراع لصالحه. لربما أدرك الجيش أن التكلفة العملياتية والسياسية للتحالف مع مجموعات غير نظامية أصبحت تفوق الفائدة العسكرية المرجوة. هذه المجموعات، التي غالباً ما تفتقر للانضباط المركزي وتتسم بانتهاكات متكررة لحقوق الإنسان، قد تكون قد زادت من تعقيد ساحة المعركة بدلاً من تبسيطها. لذا، فإن السعي نحو بناء جيش محترف وموحد أصبح ضرورة عملياتية ملحة لتحقيق النصر أو فرض سيطرة الدولة الحقيقية.

ويتجاوز القرار البعد العسكري ليشمل رسالة سياسية واضحة للداخل والخارج. إقليمياً ودولياً، لطالما كانت ارتباطات الجيش السوداني بالمليشيات المتعددة، وبشكل خاص تلك ذات التوجهات الإسلامية، نقطة قلق رئيسية. تُنظر إلى هذه الروابط على أنها عامل لزعزعة الاستقرار وتهديد لأي عملية سياسية مستقبلية. بوقف الدعم لهذه الجماعات، يبعث الجيش برسالة مفادها أنه يسعى لفك ارتباطه بهذه الأطراف، مما قد يمهد الطريق لزيادة الدعم الدبلوماسي أو الاقتصادي أو حتى العسكري (في شكل تدريب وتجهيز) من دول المنطقة والقوى الكبرى التي تسعى لاستقرار السودان وترفض نفوذ الجماعات المسلحة غير النظامية. قد تكون هذه الخطوة محاولة استباقية لتخفيف حدة الضغط الدولي أو تجنب المزيد من العقوبات التي قد تفرضها بعض الدول.

كما لا يمكن فصل هذا القرار عن تصريحات سابقة لقيادات عسكرية رفيعة، أبرزها حديث الفريق أول شمس الدين كباشي عن انتشار السلاح وتعدد المجموعات المسلحة. هذه التصريحات كانت بمثابة تمهيد أو إعلان نوايا بأن الجيش يرى في هذه الظاهرة تهديداً للأمن القومي، وأن فرض سيطرة الدولة على السلاح بات أولوية قصوى. ومراجعة إجراءات التجنيد تأتي في ذات السياق، لضمان تجنيد أفراد موالين للمؤسسة الوطنية، وليس لأجندات خاصة أو فصائلية، مؤكدة على رغبة الجيش في ضبط حالة الفوضى العسكرية القائمة.

أما عن توقيت هذا القرار، فهو يحمل دلالات عميقة ومثيرة للجدل. يأتي ذلك في ظل مأزق عملياتي يواجهه طرفا الصراع، ومع استنزاف الموارد البشرية والمادية. ربما أدرك الجيش أن نموذج الاعتماد على المليشيات لم يعد مجدياً لتحقيق النصر، بل ربما يزيد من تعقيدات الحرب. كما تكثفت الدعوات الإقليمية والدولية لوقف إطلاق النار والحل السياسي، مما يزيد الضغط على جميع الأطراف لتغيير سلوكها. وقد يشير التوقيت أيضاً إلى تحول في موازين القوى أو وجهات النظر داخل القيادة العسكرية، حيث انتصرت الأصوات التي تدعو إلى إصلاح الجيش وتوحيده على حساب تلك التي فضلت استمرار التحالفات مع المليشيات.

ولكن، ألا يبدو غريباً أن يلجأ الجيش لمثل هذه الإجراءات وهو في أضعف حالاته، مع احتمالية المواجهة بينه وبين كتائب الإسلاميين نفسها التي لطالما كانت حليفة؟ هذا التوقيت يثير تساؤلات حول كونها مناورة محسوبة أم مجرد يأس. قد يكون الجيش يراهن على أن الضرر الناتج عن استمرار هذا التحالف أكبر من الضرر المحتمل من المواجهة، وأن النفوذ الإسلامي داخل صفوفه أصبح عبئاً لا يمكن تحمله، وأن التخلص منه ضرورة قصوى لإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية بحتة، حتى لو جاء ذلك في توقيت صعب. لا يُستبعد أيضاً أن يكون الجيش قد استنزف قدرته على تزويد هذه المليشيات، مما جعل القرار حتمياً وليس اختيارياً بالكامل.

وفي ذات السياق، تبرز فرضية أن تكون هذه الخطوة مناورة من الجيش لجعل الدعم السريع يخفف ضرباته، ما يمنح الجيش فرصة لاستعادة أنفاسه وترتيب صفوفه. فقد أظهر الجيش بالفعل نمطاً من استخدام المبادرات السياسية كأداة لكسب الوقت وإعادة تنظيم الصفوف، كما حدث في استعادة الجزيرة وأجزاء من الخرطوم. هذه الخطوة قد تهدف إلى تحسين صورته دولياً لكسب دعم يعوض ضعف المليشيات، مع إمكانية تضليل قيادة الدعم السريع بجعلها تعتقد أن الجيش يمر بمرحلة ضعف أو تفكيك داخلي، مما قد يدفع الدعم السريع إلى تخفيف ضرباته أو إعادة تموضع قواته، وبالتالي يوفر للجيش الفرصة لإعادة تجميع قواته، أو الحصول على إمدادات، أو حتى التخطيط لهجمات مضادة مفاجئة.

بالنسبة لضمانات الجيش لاتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت الحرج، فلا توجد ضمانات بالمعنى المطلق، بل هي رهانات وتقديرات استراتيجية قد تصيب أو تخطئ. قد يرى الجيش أن قوته الأساسية كجيش نظامي لا تزال كافية للسيطرة على الوضع، وأن المليشيات لم تعد تشكل إضافة نوعية كبيرة بل عبئاً. وقد يراهن أيضاً على وعود ضمنية أو صريحة بدعم إقليمي أو دولي أكبر (سلاح، تدريب، ضغط سياسي على الدعم السريع) في حال اتخذ خطوات نحو بناء جيش أكثر احترافية وبعداً عن المليشيات، وهو ما يمكن أن يشكل ضمانة تعوض ضعف الجيش الحالي.

في هذا الإطار، من الوارد جداً أن يعتمد الجيش على قوات مثل قوات كيكل والأورطة الشرقية كبديل للمليشيات التي يقطع عنها الدعم. فهذه القوات، التي لم تُظهر حتى الآن مطالب سياسية واسعة، وادعى قادتها عدم ارتباطهم بأجندات سياسية أو دينية ضيقة ورغبتهم في الاندماج ضمن جيش وطني موحد، قد تُقدم للجيش حلاً لمعضلة القوى البشرية دون التورط في أجندات سياسية جديدة أو مشكلات تتعلق بالانتهاكات. هذا التوجه قد يسهم في تحسين صورة الجيش وتقليل الانتقادات الموجهة إليه من الخارج. إلا أن هذا الاعتماد لن يكون خالياً من التحديات فالجيش سيحتاج إلى إدارة هذه العلاقة بحذر شديد، والتأكد من عدم تكرار أخطاء الماضي التي أدت إلى نشأة قوات الدعم السريع نفسها، أو الإبقاء على مليشيات ذات أجندات خاصة قد تتحول إلى مشكلة جديدة في المستقبل.

في الختام، إن قرار الجيش السوداني بوقف تزويد المليشيات بالسلاح ومراجعة التجنيد يمثل نقطة تحول محتملة في مسار الصراع. إنه يعكس رغبة في بناء جيش أكثر احترافية ووطنية، ويسعى لإرسال رسائل إيجابية للمجتمع الإقليمي والدولي. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الخطوة سيتوقف على مدى قدرة الجيش على إدارة التداعيات الداخلية، وتجنب الفوضى، والتأكيد على أن هذا التحول ليس مجرد مناورة تكتيكية، بل التزاماً استراتيجياً نحو مستقبل السودان. التحدي الحقيقي يكمن في ترجمة هذه القرارات إلى واقع ملموس على الأرض، وفي مدى استعداد كافة الأطراف للتعاون من أجل مصلحة الوطن، بعيداً عن أجندات الفصائل والولاءات الضيقة.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *