كمبالا: التغيير

حين توقفت صنابير المياه فجأة عن ملايين المنازل في الخرطوم صيف 2020م استيقظ كثيرون على واقعة ليست مجرد انقطاع خدمة مؤقتة، بل تروي لحظة الانقطاع تلك التي وثّقتها الأبحاث والتحليلات لاحقًا كيف أن تحولات فنية وسياسية في المنبع يمكن أن تتحول بسرعة إلى أزمة إنسانية في المصب.

ففي وقت لا تزال فيه أزمة سد النهضة الإثيوبي تراوح مكانها بعد أكثر من عقد من التفاوض المتعثر، أصدر خبيران سودانيان بارزان ياسر عباس محمد وسيف الدين حمد عبد الله وهما وزيرا ري وموارد مائية سابقين ورقة بحثية تزامن نشرها مع افتتاح السد الأفريقي الأكبر لتوليد الطاقة الكهرومائية، نُشرت في سبتمبر 2025م بمجلة Water International، وتناولت مسار المفاوضات ومخاطر السد وآفاق المستقبل من منظور سوداني.

الورقة المعنونة «المفاوضات حول سد النهضة الإثيوبي (GERD): وجهة نظر سودانية»،  لا تمثل موقفًا رسميًا للحكومة السودانية، وإنما تعكس آراء شخصية للكاتبين كمواطنين سودانيين حريصين على مصلحة بلدهم، لكنها في الوقت نفسه تمثل شهادة مهمة من خبراء شاركوا بعمق في المفاوضات.

تناولت الدراسة موقف السودان من مفاوضات سد النهضة مع التركيز على البعد الجيوسياسي والتاريخي. ورغم أن السد يحمل إمكانات وفرصاً للتعاون بين إثيوبيا والسودان ومصر، إلا أنه أصبح مصدرًا للتوتر السياسي والإقليمي.

ويرى المؤلفان أن النزاع حول السد يرتبط أساسًا بتوترات سياسية وتاريخية متجذرة، وأن الحل المستدام لا يمكن أن يقتصر على المياه وحدها، بل يتطلب تعاونًا إقليميًا أوسع يشمل الغذاء والطاقة والتكامل الاقتصادي.

هواجس السودان بين الروصيرص وسلامة المواطنين

الورقة تؤكد أن السودان يظل الطرف الأكثر هشاشة بين الدول الثلاث، بحكم قربه الجغرافي من السد وارتباط تشغيله مباشرة بسلامة سد الروصيرص. والحديث عن سلامة الأخير وتحكماته ليس مجرد حديث فني، بل هو مسألة وجودية لمدن ومجتمعات تعتمد على نظم الري والمياه الجوفية والسطحية في النيل الأزرق.

وأظهر الواقع خلال سنوات الملء الأولى وتحديدًا عام 2020، تذبذبات هيدرولوجية تزامنت مع الملء الأحادي الذي أعلنت عنه أيس أبابا ما أدى إلى تقلبات في الإمدادات المحلية عبر مؤسسات الري وانقطاع مياه الشرب عن العاصمة، ما عزز مخاوف الخبراء من أن أي تشغيل غير منسق أو تغير مفاجئ في إدارة السد قد يتسبب في مخاطر فيضية أو في مفاقمة حالات الجفاف الممتد التي تهدد الإنتاج الزراعي ومصادر رزق ملايين السودانيين.

تسجل الورقة هذه الحوادث وتحللها كدليل على أن الفوائد الفنية المحتملة يمكن أن تصبح خسائر إن لم تصاحبها آليات تنسيق ملزمة.

أما التشغيل العادي (بعد الملء الأول) للنهضة، فينطوي بحسب التحليل، على جانبين متقابلين من أثره على دول المصب.

ففي جانب منه قد يقلل السد من تذبذب الفيضانات ويحد من رواسب الطمي في الخزانات السودانية، ما يطيل عمر البنى التحتية ويخفض تكاليف الصيانة، وربما يسهم تنسيق التشغيل في تحسين إنتاجية محطات توليد الكهرباء السودانية في مواسم محددة.

لكنه في الجانب الآخر يحمل احتمال تقليل التدفقات في سنوات الجفاف، ويزيد التعرض لمخاطر إذا ما رافق التشغيل غياب إطار قانوني لتبادل البيانات الفورية حول المناسيب والتصرفات اليومية.

هذه الموازنة بين منافع محتملة ومخاطر حقيقية تتكرر في كامل صفحات الورقة وتستند إلى نمذجة هيدرولوجية وبيانات تشغيلية متاحة لفترات الملء.

سد النهضة الإثيوبي

مصر وإثيوبيا.. صراع الحصص والسيادة

ترى مصر أن الخطر الأكبر يكمن في تراجع حصتها التاريخية من مياه النيل، خصوصًا في سنوات الجفاف الممتد، ما قد يؤثر على تشغيل السد العالي. بينما تتمسك إثيوبيا بحقها السيادي الكامل على سد النهضة وتعتبره مشروعًا تنمويًا واستراتيجيًا لا يخضع لأي قيود دولية، وهو ما يفسر انسحابها من توقيع اتفاق واشنطن في فبراير 2020.

التفاوض

مسار التفاوض الذي تفصله الورقة يظهر تاريخًا من المحطات المتعثرة، بدأ السجال السياسي مع الإعلان عن المشروع في 2011، ثم خضعت القضية لمراجعات خبراء دوليين عام 2013، وانتقل النقاش إلى مستوى دولي أوسع حين صدر إعلان المبادئ عام 2015 الذي مثل نقطة تحول دبلوماسية مهمة، إلا أن تفسير أحكامه ظل موضع خلاف بين الأطراف.

شهدت المرحلة التي تلت ذلك تشكيل لجان فنية ومجموعات بحثية ومحاولات وساطة إقليمية ودولية، في الفترة بين 2019 و2020، شهدت واشنطن جولات تفاوضية مهمة برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، حيث نجحت الأطراف الثلاثة في التوصل إلى توافق حول معظم القضايا الفنية المتعلقة بالملء الأول وتشغيل السد سنويًا وضمان سلامته وآليات التنسيق بين الدول.

ومع ذلك، استمرت الخلافات حول قواعد الملء في حالات الجفاف الممتد، والمشاريع المستقبلية وعلاقتها بالاتفاقيات القائمة، بالإضافة إلى طبيعة الالتزام القانوني للاتفاق.

في نهاية المطاف، انسحبت أديس أبابا من التوقيع النهائي في فبراير 2020، بينما وقعت القاهرة بالأحرف الأولى، ورفضت الخرطوم التوقيع.

لاحقًا، قدم السودان في يونيو 2020 مبادرة جديدة لإعادة إطلاق المفاوضات، استطاع من خلالها جمع مصر وإثيوبيا مجددًا. وقد قاد الاتحاد الأفريقي بعد ذلك جولات التفاوض بمشاركة مراقبين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، ورغم التقدم الملحوظ، لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بسبب تمسك إثيوبيا بمواقفها وطرحها لقضية تقاسم المياه.

على الصعيد الدولي، تم عرض ملف السد لأول مرة على مجلس الأمن في 2020، حيث اعتبر تهديدًا للأمن والسلم الإقليميين، إلا أن المجلس شدد على ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.

استمرت المحادثات في الفترة بين 2021 2022 برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، مع ظهور مبادرات من الإمارات وعدد من الجهات الدولية الأخرى بعد ذلك.

ومع اقتراب عام 2024، لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل، وبقيت الخلافات الجوهرية قائمة، خصوصًا بشأن قواعد الملء أثناء الجفاف والتنسيق مع السد العالي في مصر.

وتشير التقديرات إلى أن السودان لعب دورًا محوريًا في مراحل عدة من المفاوضات، لكنه يظل الطرف الأكثر هشاشة وتأثرًا بالتطورات الإقليمية.

خلفية عن السد

موقع السد وحجمه والآثار التقنية المرافقة له تشكل الخلفية التي لا يمكن تجاهلها عند قراءة أي تحليل متصل بالملف.

يقف سد النهضة على النيل الأزرق قرب الحدود السودانية، ويبلغ حجمه التخزيني وفق الورقة نحو 74 مليار متر مكعب، وقد بدأ العمل في بنائه عام 2011 فيما باشرت إثيوبيا عمليات الملء الأولى في 2020 إلى منسوب قريب من 638.5 متر في 2024.

ويتوقع المشغلون أن يحقق السد قدرة كبيرة على توليد الكهرباء لصالح إثيوبيا عند اكتماله الكامل، وهو ما يحمل في طياته جانبًا تنمويًا مهماً لطموحات إمداد الطاقة في المنبع.

تفاصيل هذه المعطيات التقنية والجدول الزمني للإنشاء والملء موثّقة ومحللة في الورقة، وتستخدمها هنا كمرتكز لفهم انعكاسات السد على دول المصب، لا سيما السودان.

عقبات

العقبات التي تحد من إمكانية التوصل إلى اتفاق نهائي ليست تقنية فقط، بل في جوهرها سياسية وقانونية وإجرائية.

تتضمن تلك العقبات، بحسب تحليل الكاتبين، قصور الثقة المتبادل بين الدول الثلاث وغياب إطار قانوني ملزم لتبادل المعلومات وإدارة الطوارئ، وتباينات في تفسير إعلان المبادئ الذي قدم قبل عقد من الزمن.

كما أن اختلاف المواقف الاستراتيجية، حيث ترى مصر أن مصالحها التاريخية في مياه النيل يجب أن تحفظ، وتعتبر إثيوبيا أن السد مشروع سيادي للتنمية الوطنية، بينما يحاول السودان تحقيق توازن قائم على ضمانات سلامة منشآته ومصالح مجتمعاته، كل ذلك يجعل من الاتفاق القابل للتطبيق أمراً عسيراً ما لم تُحكّم آليات الضمان والحوكمة.

لم تغب عن الورقة أيضاً الإشارة إلى تأثير الاضطرابات الداخلية في دول الحوض على مرونة المفاوضين وقدرتهم على المساومة، فالظروف السياسية الداخلية لدى أي طرف تنعكس مباشرة على مستوى التسوية الممكن تحقيقه في أديس أبابا أو الخرطوم أو القاهرة.

تقدم الورقة رؤية تنقل النقاش من إطار الخوف والتوتر إلى إطار الفرصة المشتركة، إذ ترى أن تحويل السد من مصدر توتر إلى منصة تعاون ممكن عبر توسيع النقاش من مياه فقط إلى مساحات أوسع تشمل الطاقة والتكامل الاقتصادي والزراعة والأمن الغذائي.

هذه الرؤية لا تتجاهل المخاطر، لكنها تؤكد أن إدارة السد ضمن منظومة متكاملة يمكن أن تحقق منافع اقتصادية مشتركة تزيد من مرونة الاستفادة من مياه الحوض وتخفف ضغوط التقاسم.

ولتحقيق ذلك، تقترح أن تكون هناك آليات ملزمة لتبادل البيانات والإنذارات المبكرة، وأن يُبنى أي اتفاق على قواعد قانونية واضحة تتناول حالات الجفاف الممتد والطوارئ، إضافة إلى مبادرات ربط كهربائي وتجارية قد تجعل من فوائد السد حافزًا للتعاون بدلاً من أداة تناقض.

خلاصة ما تقدم أن أزمة سد النهضة تجمع بين بُعدين؛ فني تقني تقول الورقة إنّ معالجة الملف لا تنجح بمعزل عن تعزيز المؤسسات الوطنية في السودان وتحصينها، وفي الوقت ذاته لا تنجح بدعوة أطراف المنبع والمصب إلى الحوار دون حزمة من الضمانات القانونية والتشغيلية.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.