حافظ يوسف حمودة
في مشهد سياسي سوداني لا يتوقف عن إنتاج المفاجآت ، ولا تستطيع ان تغمض عينيك ، برز مؤخراً تحول لافت في موقف الكيزان تجاه كامل إدريس ، ( 180 ) درجة ، قبل ( 72 ) ساعة كان الرجل هدفاً لهجومهم المتواصل ، متهمين إياه بالكفر والتزوير وأنه فاسق وجمهوري . هذا التحول لم يكن وليد مراجعة داخلية أو مصالحة فكرية ، بل جاء استجابة لضغوط إقليمية تمارسها القاهرة والرياض ، تقضي بضرورة استبعاد الوجوه الإسلامية المتشددة عن المشهد الانتقالي ، وطرح شخصية (مدنية ، وليبرالية ومتصالحة مع المؤسسة العسكرية) تتمتع بقبول دولي وقدرة على المناورة في الساحة الإقليمية والدولية .
التحول في الخطاب الكيزاني كان صادماً في سرعته وحدّته . فبعد أيام من شيطنته ، بدأت أصوات كيزانية بارزة تتحدث عن وطنية كامل إدريس وعن ماضيه الناصع في المحافل الدولية ، بل وذهبت بعض المنابر إلى تسويقه كـفرصة لإنقاذ البلاد . أما في غرفهم المغلقة يعتبرونه كرتا لمناطحة حمدوك في الساحة الدولية . هذا التحول لا يعكس بالضرورة قناعة إسلامية بمؤهلات الرجل ، بقدر ما هو انعكاس لمناورة سياسية فرضتها معطيات داخلية وإقليمية . فالإسلاميون في مرحلة دفاع استراتيجي ، ويسعون لتسويق وكلاء أو تحالفات غير مباشرة تعيدهم إلى الطاولة من دون أن تثير القلق الخارجي ، لكن (بغريزتهم الطفولية) يسعون إلي التحكم الاعمي على الرجل.
السؤال الحاسم : هل يقبل كامل إدريس بهذا الدور المرسوم له ؟ من جهة ، قد يرى فيه فرصة لتحقيق طموحه السياسي طالما سعى إليه . ومن جهة أخرى ، فإن تحالفه مع الإسلاميين حتى بشكل غير مباشر قد ينسف رصيده الدولي ، ويقلل من فرصه كبديل مدني مقبول .
إدريس ، المعروف بدهائه ، قد يناور بين طرفين في البداية ، مراهناً على توازن دقيق بين دعم العسكر ومهادنة الإسلاميين ، لكن سرعان ما ينقلب وينحاز إلى جانب العسكر في حال حدوث شقاق .
من المهم هنا التذكير بالتاريخ المتقلب للعلاقة بين الإسلاميين والعسكر . فمنذ أيام النميري ، مروراً بالبشير، كانت تحالفاتهم قصيرة العمر ، تنتهي غالباً بسيطرة العسكر وتقليص دور الإسلاميين أو رميهم في السجون . فالعسكر بطبيعتهم لا يتحملون شريكاً أيديولوجياً طموحاً (الشيوعيون في السبعينات والترابيون في التسعينيات) فالإسلاميون من جهتهم لا يرضون بدور الظل . هذه المعادلة كثيراً ما فجّرت الصراعات داخل السلطة ، وحسمها الجيش بقوة السلاح أو التحالفات الإقليمية . هذا المشهد المتجدد دائما يجعل الجيش وهم يملكون أدوات الحسم ، يعرفون جيداً متى يتقدمون ، ومتى يدفعون بغيرهم إلى الواجهة كواجهة ناعمة للحكم العسكري .
التحول الكيزاني تجاه كامل إدريس ليس سوى انعكاس لحالة من الإفلاس الاستراتيجي تبحث عن أي رافعة للعودة إلى السلطة ، ولو عبر من كانوا يوماً خصوماً عقائديين كما سبق في اختيارهم حمدوك زمن البشير وتفاهماتهم السرية مع الشفيع خضر . أما إدريس ، فسيكون عليه أن يختار : إما أن يكون مشروعاً مستقلاً يعيد إنتاج المشهد السوداني على أسس جديدة ، أو أن يتحول إلى ورقة في لعبة انتهت نتائجها قبل أن تبدأ .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة