اخبار السودان

بين كامل إدريس واللا كامل … ربطة العنق التي لم تُقنع مجلس اللوردات

إبراهيم برسي

 

في بلدٍ اعتاد أن يرى الدم على واجهة الدولة، يأتي تعيين كامل إدريس رئيسًا للوزراء كعرضٍ ثانويّ في مسرحٍ محترق. لا يحمل الرجل مشروعًا بقدر ما يحمل تذكرة دخول إلى صالة الانتظار العسكري، حيث تُخاط البدلات المدنية من أقمشة الطغيان، وتُوزع المناصب بوصفها محاولات لغسل نبوءة قيلت في المنام.

هذا المقال يتتبع “اللا كامل” بوصفه كائنًا يكتمل فقط حينما تتحقق نبوءة والده، ويواجه قارئه بسؤال جوهري: من يُعيِّن من؟ ومن يصنع المعنى في مشهدٍ تحكمه الدُمى ويؤرخه سجلُ الهزائم حين يُترك مفتوحًا فوق طاولةٍ لا أحد يقرأ منها.

 

ثمة لحظات لا يكون فيها ما يُقال أكثر مما يُفضح بالصمت. ولعلّ هذه هي اللحظة التي يخرج فيها “اللا كامل” إلى المسرح، لا بوصفه شخصية، بل كناية رمزية عن كائنٍ ناقص لا تكتمل صورته إلا حين تتحقق نبوءة قيلت له منذ الطفولة، كأن الولادة نفسها لا تكتمل إلا حين يُصدّق الابن نبوءة والده.

 

اللا كامل ليس ناقصًا لأنّه فشل، بل لأنّ معيار اكتماله لا ينبع من ذاته، حتى يصير “له شأن عظيم”.

اللا كامل، حين يصل إلى العرش، لا يشعر بأنه اكتمل، بل بأنه تأخر. فكلما أمعن في السلطة، ازداد فزعًا من فقدانها. لأنه لا يريد الحكم، بل إثبات نبوءة والده.

والنبوءة لا تحتاج شعبًا، بل مسرحًا ومرايا … ودمًا.

 

إنها لحظة تتجسّد فيها الكلمات كأقنعة فوق وجوه الحطام. لحظة تمثيل لا تحتمل حتى المبالغة، لأنها قائمة من أصلها على حين لا يعود الكذب حاجة، بل بنية معرفية كاملة لإنتاج الحكم.

 

ما يُقدَّم الآن ليس حدثًا، بل استئنافًا لمأساة قديمة بلغة جديدة.

في السودان، حيث لا تزال جثث الحرب تحت الأنقاض، وأصوات النزوح أعلى من نشرات مكتوبة لطمأنة الضمير الدولي، لا لإنقاذ أحد،

أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان وهو ليس رئيسًا بشهادة الواقع تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء، كأنَّ الخراب كان تمرينًا دبلوماسيًا، وكأنَّ الثورة لم تكن سوى فاصل ساخر بين عهدين من القمع.

 

كامل إدريس، الدبلوماسي العائد من أرشيف البيروقراطيات الدولية، رجلٌ ذو سيرة أكاديمية مصقولة بعناية، لكن مفخخة بشقوق قديمة. فتاريخه في المنظمة العالمية للملكية الفكرية، رغم وجاهته، لم يخلُ من عتمةٍ تشبه ظل الطغاة: فقد أُقِيل أو استقال في 2008م بعد أن طُرحت تساؤلات عن تزوير تاريخ ميلاده، وتحوّل الحلم الدبلوماسي إلى مرآة مشروخة لم تُكسر لكنها لم تُلمع بعد ذلك أبدًا.

 

لكن المسألة هنا ليست حول التاريخ، بل حول التوقيت. ليس عن ميلاد إدريس، بل عن ميلاد مرحلة يفرضها البرهان بلغة الزيّ الرسمي والنيشان، لا بلغة الشعب. المرحلة التي تأتي فيها رئاسة الوزراء مرفقة بشرطٍ خفي : أن ترتدي ربطة العنق مذيلة بابتسامة لا تخفي رائحة البارود.

 

وفي جوف هذا السياق الرمادي، ينبغي أن يُقال دون مواربة:

 

اختيار عبد الفتاح البرهان لرئيس وزراء جديد أيًّا كان الاسم أو الانتماء لا يُمكن فصله عن طبيعة اللحظة التاريخية المختلة التي يعيشها السودان، ولا عن جوهر السلطة التي يمثلها البرهان نفسه.

 

فالبرهان لا يُعيّن رئيسًا للوزراء، بل يُعيّن واجهةً مدنيةً مكسورة القامة لتجميل مشروعه العسكري، وتسهيل مهمة تسويق ما تبقى من الدولة في أسواق الإقليم. هو لا يبحث عن شريك، بل عن منديل حريري تُمسح به آثار الدماء أمام الكاميرات، وتُوقع به اتفاقات تشبه أوراق النعي.

 

في خزان الخوف الذي يُغذّي آلة الحكم كل صباح، البرهان ليس حاكمًا بحسب الميثاق الغريزي للحكم الذي لا يُراجع نفسه. رجلٌ نبت من مناخات الانقلابات، وتورّط في كل ما أنتجه العنف من رماد، يحاول الآن تزيين الكارثة بوشاحٍ إداري وابتسامة دبلوماسية.

 

إن تعيين رئيس وزراء في هذا السياق ليس انتقالًا نحو دولة، بل انتقالٌ نحو تسوية هشّة تفتقر للعدالة، يُراد لها أن تمنح العسكر مهلة جديدة لاستكمال هندسة الطغيان.

 

السؤال ليس: “من هو رئيس الوزراء؟”

بل: “لماذا يظل البرهان هو من يعيّن؟ ومن أعطاه هذا التفويض؟”

 

فحين يكون القاتل هو من يُعيّن، تكون كل الأسماء الأخرى مجرّد ملحق في بيان النعي الوطني.

 

وإن أراد أحدهم الدفاع عن ذلك بأنه “خيار الضرورة” أو “حل مؤقت”، فعليه أن يتذكّر أن الضرورة لا تُشرعن الجريمة، ولا تمنح السلطة لمغتصبها، وإن وضع على مكتبه دستورًا بغلافٍ يُشبه الدولة، ويخفيها، ويتكلم باسمها.

 

ما إن انتشر الاسم، حتى انفتحت الأبواب الخلفية لغرف البروباغندا كما تُفتح ثلاجات الموتى عند انقطاع الكهرباء، وبدأت الأصوات المُستعارة تُقلّد ضجيج الفرح الوطني. خرجت علينا الكائنات الرمادية من غرفهم الإعلامية، يرتدون ربطات عنق تُشبه بقايا أعلام مهترئة، وراحوا يعتلون شاشاتهم كما يعتلي الغراب منبرًا ليُبشّر بالحياة.

 

حسن طرحة كان أولهم، وهو يتكئ على ميكروفونه كما يتكئ شهود الزور على محاضر النيابة، وبصوت مشروخ بين النفاق والحنين كاد أن يقول إن الرجل “كوز رأسه عديل”.

وحسين خوجلي، شاعر الأرصفة المهجورة والقصائد التي ماتت في التسعينات، دخل علينا بعباءته الخطابية الجوفاء معلنًا: “إن كان جرم دكتور كامل الوحيد أنه زوّر تاريخ ميلاده، فهنيئًا لنا بوليّ من أولياء الله الصالحين!”.

وأطلّ خالد الإعيسر، بصوته المدموغ بتكنولوجيا النفي، من على شاشة الجزيرة، وبنبرة مذيع يتهم المُشاهد بسوء الفهم، ذهب أبعد مما قاله حسين خوجلي، معلنًا أن كل ما يُقال “كذب وافتراء”، وأن لديه وثيقة براءة يمكنه إرسالها شخصيًا إلى مذيع القناة أحمد طه!

فكم أنت بارع في تحريك الدُمى أيها البرهان.

 

لكن العرض لم ينتهِ. بل بدأ الجزء الأهم:

غرف “بل بس”، وقد تقيأت غضبها على الشعب.

“كلكم مزوّرون!” قالوا، وكأن تزوير الدولة يبرّره تعميم التهمة.

“كل السودانيين مولودون يوم 01/01!”

يا لها من نكتة وطنية:

شهادة تسنين تتحول إلى شهادة جنائية،

ويومٌ في التقويم يصبح حبلاً يُشنق به الشعب.

 

هكذا، في حفلة تنكرية وطنية،

أُدينت الأمة لتبرئة رجل.

وصار التاريخ خطأ مطبعي،

والكذبة عرفًا،

والكوميديا … سياسة دولة.

 

هذه الكلمات ليست رأيًا معارضًا، بل وصفٌ موضوعي لمسرحية يُراد بها أن يغادر البرهان مشهد الدم متخفيًا في بدلة مدنية. وتمامًا كما قال اللورد جيريمي بورفيس أوف تويد أمام مجلس اللوردات البريطاني: “هذا الوزير هو، في الواقع، دُمية تم تعيينها من قبل أحد أطراف الحرب.

 

تصريحات بورفيس، وسياقها البرلماني البريطاني، ليست موقفًا عاطفيًا، بل اعترافًا بأنّ ما يجري في بورتسودان ليس انتقالًا، بل تثبيتٌ لانقلاب يتزيّا بالبروتوكول، ويتغذى على الصمت.

 

وكامل إدريس، إن لم يكن شريكًا في هذه المهزلة، فهو الغطاء القماشي لها. لا يملك سلطة، بل يُمنح توقيعًا على قرارات لا يراها، وصورًا لا تُبنى على أرض. وكما قال غرامشي: “في زمن التحولات، تظهر المسوخ.”

وها نحن أمامها، مرة أخرى، مكرّرة كأنها مصير.

 

ليس السؤال اليوم عن قدرة كامل إدريس على الحكم، بل عن منطق تعيينه في لحظةٍ يتحوّل فيها الوطن إلى لُعبة بين الجلاد والبروتوكول. ما نراه ليس انتقالًا، بل إعادة إنتاجٍ للخراب بلغة أكثر تهذيبًا. الطغيان لا يحتاج إلى بندقية دائمًا، يكفيه دُمية تتقن الكلام .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *