عبدالماجد سعيد عرمان
في فجرٍ غامضٍ من تاريخٍ بعيد، وُلد طفلٌ في سهول “آريا فيجيا”، أرضٍ يحدّها الصقيع من الشمال والجبال من الجنوب، وتتشابك فيها أنهارٌ صغيرةٌ تبحث عن مصبٍّ في بحرٍ لا يُرى. كان ذاك الطفل هو زرادشت، الذي سيصير يومًا نبيًّا للأنوار والظلال معًا.
لم يكن مثل أترابه؛ كانوا يلعبون بالتراب ويُسابقون الريح، وهو يُطيل النظر إلى السماء. يسأل: “لماذا يُشرق النهار ثم يُسلِمُ جسده للّيل؟ لماذا يُولد طفلٌ بريء ليموت شيخًا عليلًا؟ وأي يدٍ خفيّة تُحرّك هذا الصراع بين الخير والشرّ؟”.
تأمل طويلًا حتى ضاقت عليه القرية. ترك الناس خلفه، ومشى إلى العزلة. هناك، على حافة صمتٍ جبلي، رأى رؤياه الكبرى: أهورامزدا، إله النور، يطلّ عليه بضياءٍ يغمر العيون والقلوب. قال له:
“أيها الإنسان، الكون صراع، والشرّ خصمك الأبدي. قاومه بفكرك، بقولك، بعملك. لا تكذب، لا تخدع، لا تُفسد. كن جسرًا بين النور والبشر.”
عاد زرادشت إلى قومه بنارٍ في صدره. كذّبوه، حاصروه، سخروا منه. الكهنة خافوا أن تسقط أوثانهم، والملوك خشوا أن تُهدَّد سلطتهم. لكن بعد سنوات، وجد قلبًا واحدًا صدّقه: الملك فيشتاسبا. حين آمن الملك، انكسرت المقاومة، وبدأت شمس الزرادشتية تُشرق على فارس.
غير أنّ كل نورٍ يترك وراءه ظلًّا. مات زرادشت ـ قيل قُتل في المعبد ـ لكن صوته بقي يهمس: “الفكر الحسن، القول الحسن، العمل الحسن”. ظلّت حكمته تتسرّب إلى الديانات اللاحقة، كجدولٍ خفيّ يغذّي أنهار التوحيد. ولعلّ ذلك ما جعل أهل العلم في الإسلام يقولون إن الله لم يترك أمةً إلا وبعث فيها نذيرًا، وإنّ النور الإلهي يشرق في كل عصر، ثم يكتمل في الرسالة الخاتمة التي جاءت لتفرّق بين الحق والباطل، وتجمع شتات الأنوار في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله.
بعد ألفي عام، في أرضٍ بعيدة عن جبال فارس، كان فيلسوف ألماني يتمشى بين غابات الصنوبر، يصغي إلى صمتٍ داخلي لا يقلّ قسوةً عن صمت الجبال. كان اسمه فريدريك نيتشه. لم يستدعِ سيدنا موسى ولا عيسى ليكونا رفيقيه في الكتابة، بل استدعى زرادشت. لم يأتِ به كما تركه التاريخ، بل أعاد كتابته.
زرادشت نيتشه لم يكن نبيّ النور والظلام، بل نبيّ الإنسان الحرّ. خرج إلى الجبال، لا ليُبشر بإلهٍ فوق السماء، بل ليعلن موت الإله نفسه. قال بصوتٍ كالعاصفة: “لقد مات الإله، والإنسان وحده باقٍ. فليكن الإنسان إلهًا لنفسه. ليخترع قيمه بيديه، لا بوصايا الغيب.”
وبين زرادشتين، انفتحت هاويةٌ وجودية:
زرادشت الأول أراد أن يهب الإنسان طريقًا مستقيمًا يقوده إلى النور.
زرادشت الثاني أراد أن يُلقي بالإنسان في لُجّة الحرية المطلقة، ليصوغ بنفسه مصيره دون قيد.
لكن في أفقٍ أبعد، يظلّ صوت القرآن يذكّر الإنسان بأن الحرية لا تكتمل إلا بالعبودية لله، وأن النور الحق ليس مجرّد فكرة ولا قوة عمياء، بل هو هداية إلهية تحفظ الإنسان من أن يغرق في ظلام نفسه. “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”… تلك الآية التي بدّدت حيرة العصور، وربطت بين السؤال القديم لزرادشت، وتمرد زرادشت نيتشه، وجواب الإسلام الذي جمع بين الحرية والحق معًا.
وهكذا، فإنّ قصة زرادشت ـ بين التاريخ والرمز، بين فارس وأوروبا، بين الوحي والفلسفة ـ ليست إلا صدى لسؤالٍ واحدٍ يتردّد منذ الأزل: كيف يحيا الإنسان في كونٍ يتنازعه النور والظلام؟ والجواب يظل يتردّد بين الأنبياء والفلاسفة، حتى اكتمل في الكلمة التي ختمت الرسالات: نورٌ واحد، مصدره واحد، لا يبهت ولا يغيب…
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة