الوسط : بين تجريم الأطراف وتهشيم المركز

خالد فضل

 

(1) الوسط يشمل جغرافيًّا وإداريًّا ما كان يُعرف بمديرية النيل الأزرق، ثم الإقليم الأوسط، ثم أخيرًا ولاية الجزيرة؛ باعتبار أن ود مدني ظلت تمثل العاصمة لكل هذه التقسيمات، كما أن مشروع الجزيرة ظل يمثل الرافعة الأساسية للاقتصاد القومي منذ نشأته قبل مائة عام من الآن وحتى انهياره المريع على عهد جماعة الإسلام السياسي المؤتمر الوطني في عقد التسعينيات من القرن الماضي.

(2) شكّل المشروع الزراعي بوتقة اجتماعية متباينة في سحناتها وقبائلها وأعراقها ولغاتها وثقافاتها ومعتقداتها الروحية، وإذا نظرنا إلى السودان نفسه كأرض هجرات تاريخية متنوعة فإن منطقة الجزيرة تحديدًا تمثّل تلك الهجرات بدرجة كبيرة؛ بعلاقاتها المتوترة رغم ظاهرها الهادئ. في المساحات التي يشغلها المشروع الزراعي وإدارته تكاد تنطمس ملامح سيادة قبيلة واحدة، صحيح هناك أغلبية لهذه المجموعة القبلية أو تلك في أقسام وتفاتيش المشروع، لكنها سيادة نسبية تتشاركها في الغالب مع مجموعة أو مجموعات أخرى أقل حجمًا، مثل مناطق الحلاوين في نواحي الحصاحيصا، أو الكواهلة في جنوب الجزيرة، ولكن تظل سمة التنوع والتعدد حاضرة باستمرار وتتداخل الأعراق والقبائل بالمصاهرات لدرجة يصعب فيها أحيانًا تصنيف الشخص بقبيلة واحدة.

(3) هذه التركيبة الاجتماعية بملامحها المكتسبة من بيئة وسبل كسب عيشها أميل للتسامح والوسطية وقبول الآخر “مكره أخاك لا بطل”، وبالتالي أنسب لنشوء ونشاط المجتمع المدني بمختلف تنظيماته السياسية، والنقابية، والأهلية. ويبتعد نسبيًا عن مهن العسكرية؛ لذلك تبدو دعوات التجييش التي صاحبت هذه الحرب غير ملائمة لطبيعة معظم المجموعات وثقافتها. وقد تابعت مثلًا الدعوة لفتح معسكر تدريب في قريتنا قبل اجتياح ود مدني من جانب قوات الدعم السريع بقيادة ابن الجزيرة أبي عاقلة كيكل. لم تجد تلك الدعوة استجابة تُذكر وسط المواطنين، ولم ينخرط فيها سوى عشرات الشباب من قرية يناهز تعدادها ستة آلاف نسمة. وبعد عملية الاجتياح الأولى للقرية ونهب السيارات تحديدًا وبعض الأموال، نشطت مجموعات حراسة ودوريات ليلية قوامها مئات الشباب دون أن يكونوا مسلحين بالسلاح الناري؛ كانوا يحملون العصي والسلاح الأبيض على أكثر تشوين. وكان غرضها الأساسي حماية القرية من تفلتات المتفلتين والنهابين المحليين. لم يك في مقدورهم مواجهة قوات الدعم السريع شبه العسكرية جيدة التسليح.

(4) في الواقع، وفَّر قدوم عناصر الدعم السريع كمحاربين أول ملامسة عنيفة مع أشخاص ينحدرون من جهات غرب السودان: دارفور، والغرب الأوسط، كردفان. فيما لم تظهر عناصر قوات كيكل وقوامها مجموعات قبلية في شرق الجزيرة على الأقل في مناطق جنوب الجزيرة حيث عشت التجربة لبضعة شهور قبل مغادرتي الوطن كله لاجئًا. لقد كانت لغة عناصر الدعم السريع تنطوي على فكرة مسبقة عن الوسط والجزيرة تحديدًا باعتبارها من معاقل الفلول، ومركز امتياز لدولة 56. فيما كان بعض الأفراد يُبدون استغرابهم من كون المواطنين هنا مسالمين ولا يحوزون السلاح ولا يقاومون. التقط بعضهم تلك الإشارات الثقافية فكانت طريقة تعامله أفضل، فيما كانت الأغلبية فظة وعنيفة. إن القوام الرئيس لعناصر الدعم السريع من جيل الشباب والصبيان، ولعل بعضهم انضم للدعم السريع عقب اندلاع الحرب، وقد لحظ الناس فرقًا في سلوك وتعامل الجنود والضباط المنضوين تحت لواء الدعم السريع مسبقًا، وبين الذين انضموا إليه حديثًا على وقع الحرب ومفهوم الغنيمة. ولعل بعض المواطنين الذين عادوا لمنازلهم في الخرطوم أو مدني وسنجة قد وجدوا بيوتهم سالمة لم تُنهب أو تُدمَّر ليكتشفوا أنها كانت نُزلًا لقيادات وضباط في الدعم السريع؛ عكس بقية المنازل التي صارت نهبًا للشفشافة والنهابين الذين اختلط بينهم “الدعامة” و”الجيّاشة” والمليشياويون.

(5) وصلت الرسالة إلى أهل الوسط ومناطق الجزيرة تحديدًا بأنهم مصنفون كمجرمين لدى مواطنيهم الآخرين في أطراف السودان، وأن ريع دولة 56 وامتيازاتها كانت حصرًا عليهم، وأن أكبر تجلٍّ لذلك الظلم والحيف الذي مثله الفلول منبعه الوسط بما فيه الجزيرة. كان العنصر من الدعم السريع يتحدث إلى صاحب المنزل وهو ينهب في محصوله من مخزنه بأنك فلولي وهذا المحصول نتاج دولة 56 الظالمة. لم يك في وسعه معرفة كيف حصد المزارع وشقي في سبيل ذلك بعد عملية التهشيم الممنهجة التي مارستها سلطة المركز الإسلامي، ومن ضمن تلك السلطة رموز وشخصيات بارزة من نفس المجموعات القبلية والجهوية التي ينتمي إليها “الدعامة”. هنا تبرز الجهة كعنصر ريبة وشكوك، فالوسط لدى سكان الأطراف هو الوسط الجغرافي وليس الوسط بتفاوتاته الطبقية والاجتماعية المعلومة. لقد كان من الأمور التي استدعت انتباهي أنه في الوقت الذي يتناول فيه عناصر الدعم السريع وجباتهم المكونة في الغالب من شواء لحوم الضأن، تكاد تكون معظم الأسر في القرية تنطوي على بطون خاوية، ويبدو لهم الشواء ترفًا يستمتعون به يوم عيد الأضحى من كل عام. هنا تكمن المفارقة التي ولدت لدى الناس الإحساس بالغبن؛ كونهم بُهتوا بما ليس فيهم. فهم ضحايا السياسات والخطط الفاسدة التي دمرت مشروعهم في الأساس، وحتى في مجد وعز المشروع لم تكن عائداته تصلهم بشكل عادل، فهو ظل مشروعًا قوميًا يرفد خزانة حكومة السودان بالعملات الصعبة لتتحكم في الإيرادات التي لا ينال منها المزارعون ومناطقهم سوى الفتات. كانت الدولة موردًا لبعض الأفراد لا يخفى أن معظمهم ينحدرون من جهة جغرافية وعرقيات محددة، طبعًا على مستواها القيادي في معظم مؤسساتها وأجهزتها المدنية والعسكرية؛ تلك حقيقة وليست توهمًا، ربما يعزوها الناس لأسباب موضوعية وغير موضوعية أحيانًا.

(6) المهم هذه هي الصورة التي تمخضت عنها الحرب في مناطق وسط السودان، في ولايات الجزيرة، وسنار، والنيل الأبيض بصورة خاصة. ومع سيادة خطاب الكراهية على السوشيال ميديا، وحملات التجييش وصناعة المليشيات التي يقودها عناصر العهد المباد من الفلول الحقيقيين، ومنصات التضليل الإعلامي العديدة؛ نشأت في أوساط معظم سكان الوسط عصبيات جهوية وعنصرية ومناطقية بشكل لافت. ثم بدأوا يطرحون أسئلة الغبن عن وضعيتهم، فهم باتوا فيما يتراءى لهم التخت الذي يتبادل فيه الفرقاء تصفية الحسابات. فهم لدى أهل الأطراف متهمون بكونهم المركز الظالم، وهم لدى المركز الظالم بحق؛ مجرد كومبارس، يسهل قيادتهم بوصفهم “عرب جزيرة (ساي)”. لقد بدأ بعض شبابهم المستنير يسأل أسئلة وجودية عما حاق بأهلهم. وفي أوساط العامة بدا كما لو أن عدوهم الأول هم “الدعامة الغرّابة” فيما يظهر “الكيزان” كمخلصين. “الدعامة” الذين اجتاحوا ولاياتهم بقيادة كيكل، لكن كيكل تحول فجأة إلى بطل قومي ومخلص محلي، هكذا تبدلت الصورة بين عشية وضحاها كما أراد لها “الكيزان” الذين امتلكوا ضبط إيقاع الحرب بمهارة. ولكن من هم “الكيزان” المسيطرون؟ وهل هذا التنظيم بمنأى عن العنصرية والجهوية والعرقية؟ الإجابة ينتبه إليها بعض المستنيرين من أبناء الوسط. فيما يرمح بعض عضوية التنظيم في غيّهم يؤججون مشاعر العداء الفاجر ضد “القحاتة” والثوار والقوى المدنية، ويستخدمون “الدعامة” كذريعة وهدف ثانوي لحربهم، لذلك نمت مشاعر العداوة لقوى الثورة كلها، وتجذرت عداوة أهل الغرب بشكل فظيع بحيث أصبح يُنظر إلى سكان الكنابي كأعداء.

(7) نعم، سؤال وضعية الوسط وضمان حقوق المواطنين فيه سؤال جوهري في ظل تجاذبات جهوية بيّنة، ولكن لترجمة هذه الهواجس إلى فعل إيجابي لابد من مواجهة الواقع بوضوح. الآن لا توجد دولة في السودان، يمكن بارتياح الزعم بوجود إقطاعيات على أسس جهوية وقبلية تحت مسمى الدولة. دولاب البيروقراطية المتصدع تديره عناصر “الكيزان”، والجيش تسيطر عليه المليشيات. ما العمل؟

(8) إن طرح رؤية سياسية ناضجة هو ما يمكن أن يجمع أكبر قاعدة جماهيرية. ولأن منطقة الوسط لابد لها عمليًا من التكامل مع بقية الجهات، هنا يبرز المعطى القومي كأحد أبرز ملامح أي مشروع سياسي عملي، جزء حيوي في إطار كل متفاعل سلميًا بالطبع، نموذج الفيدرالية، والتنمية المستقلة كأطروحات عملية، لكن ما لم يتم اعتمادها كأساس لبناء وطني جديد لا يمكن أن تثمر في منطقة واحدة. الحاجة إذن إلى تأسيس جديد لكل البلد على بصيرة، وليس على مقاس فئة محددة من الناس. ميلاد سودان جديد فيدرالي ديمقراطي علماني هو الطريق لضمان كفالة وصيانة حقوق كل الناس، ليعيشوا دون ضغائن عنصرية وأوهام جهوية، ولتحطيم ذهنية التجريم للوسط المسكين، ولجم عمليات التهشيم. هذا هو الطريق الصحيح في تقديري.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.