بين الوعي الشعبي وصراع السلطة

نبيل منصور
الشرعية الثورية ليست مجرد مصطلح سياسي عابر، بل تمثل جوهر التحولات التي تصاحب الثورات في لحظاتها الفاصلة، حيث تنهار الشرعيات التقليدية للدولة أو الأنظمة، وتبرز الحاجة إلى مرجعية بديلة نابعة من إرادة الجماهير. في الحالة السودانية، تجلت هذه الشرعية عقب ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بالبشير، فحملت معها آمال التغيير والانعتاق من قبضة الاستبداد والفساد.
أولاً: ماهية الشرعية الثورية
الشرعية الثورية هي الاعتراف الجماهيري بقيادة أو سلطة مؤقتة تستمد مشروعيتها من الفعل الثوري الجماعي، وليس من صناديق الاقتراع أو المرجعيات الدستورية. هذه الشرعية تُمنح بهدف تنفيذ أهداف الثورة، مثل تفكيك النظام القديم، تحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء دولة مدنية ديمقراطية.
ثانيًا: إيجابيات الشرعية الثورية
من أبرز الإيجابيات:
1. الاستجابة الفورية لمطالب الجماهير: فهي نابعة من الشارع، وتمثل تطلعاته.
2. حماية الثورة من الردة والانحراف: حين تفشل المؤسسات القديمة أو تُخترق.
3. إعادة بناء الدولة على أسس جديدة: إذ تُمنح السلطة لمشروع وطني جامع يعيد صياغة العقد الاجتماعي.
4. تحقيق توازن مقابل هيمنة المؤسسة العسكرية أو القوى القديمة.
ثالثًا: سلبيات الشرعية الثورية
لكنها ليست خالية من المخاطر:
1. غياب الإطار المؤسسي والقانوني: ما يفتح الباب للفوضى أو استغلال السلطة.
2. استخدامها كشعار لتبرير الإقصاء أو تعطيل المسار الديمقراطي.
3. الاحتكار النخبوي للثورة: حين تدّعي قوى معينة أنها الممثل الوحيد لها.
4. إضعاف المشاركة الجماهيرية إذا تحولت إلى أداة فوقية لا تتغذى من الشارع.
رابعًا: العلاقة بين الشرعية الثورية ودرجة الوعي الشعبي
لا يمكن للشرعية الثورية أن تُنجز مهامها ما لم تكن مدعومة بوعي جماهيري متقد. الوعي هنا لا يعني فقط الإدراك السياسي، بل يشمل الفهم العميق لأهداف الثورة، والقدرة على الفرز بين القوى الحقيقية والتكتيكية، ورفض الوقوع في فخ الاستقطاب الزائف. الجماهير الواعية تُراقب وتُحاسب، ولا تكتفي بالتفويض الأعمى، ما يجعل الشرعية الثورية ديناميكية ومتجددة وليست أبدية.
خامسًا: الفرق بين الشرعية الثورية والعمل المسلح
ثمة خلط شائع في السياق السوداني بين “الشرعية الثورية” و”استخدام السلاح كوسيلة للتغيير”. من المهم التمييز بينهما:
الشرعية الثورية تُبنى على المشاركة الجماهيرية والضغط السلمي والتعبئة الشعبية، وهي تستمد مشروعيتها من الدعم الأخلاقي والسياسي للشعب.
أما اللجوء للسلاح، فهو خيار قد يُبرر في حالات الدفاع عن النفس أو لمقاومة أنظمة قمعية متوحشة، لكنه يظل محفوفًا بالمخاطر، لا سيما حين يتحول إلى وسيلة لتصفية الخصوم أو لإقامة سلطات موازية خارج الإرادة الشعبية.
التجربة السودانية أظهرت أن السلاح، حين ينفصل عن الشرعية الجماهيرية، يتحول إلى أداة لفرض الأمر الواقع، ويُعيد إنتاج الاستبداد بثوب جديد، كما هو الحال مع بعض الحركات المسلحة أو مع الدعم السريع.
الشرعية الثورية تُنجز التغيير عبر وعي الناس وتنظيمهم السلمي والمدني، أما السلاح فقد يُسقط نظامًا، لكنه لا يبني دولة عادلة بمفرده.
سادسًا: طبيعة الصراع في السودان
الصراع في السودان ليس صراعًا أيديولوجيًا أو جغرافيًا في جوهره، بل هو صراع على السلطة والموارد ووسائل الإنتاج. تتجلى أطرافه الرئيسية في الجيش والدعم السريع، وكلاهما يسعى للسيطرة لا لبناء وطن. يتغذى هذا الصراع من مصالح داخلية وخارجية، حيث تدعم بعض الدول الإقليمية أطراف النزاع طمعًا في الذهب والموانئ والموقع الاستراتيجي.
كما أن شبكات المصالح القديمة، التي نشأت خلال عهد البشير، لا تزال تؤثر في المشهد من خلال التحالف مع قوى داخلية أو خارجية تسعى لتثبيت نفوذها. هذا الصراع يفرز واقعًا دمويًا تُغيّب فيه إرادة الشعب، ويُزج بالجماهير في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
خاتمة
إن الشرعية الثورية لا تُختزل في لحظة، ولا تُخلّد بالتفويض، بل تُبنى بالوعي، وتتغذى من المشاركة الشعبية. والمخرج من هذا النفق السوداني يبدأ بإعادة الاعتبار لإرادة الناس، لا بإعادة تدوير النخب الفاسدة أو انتظار تسويات الخارج. فالمعركة ليست فقط على السلطة، بل على مستقبل السودان نفسه: إما أن يُستعاد لحضن شعبه، أو يُباع للمتربصين به من الداخل والخارج.
[email protected]المصدر: صحيفة الراكوبة