والدك مريض جدا رجاء أن تحضر فورا!
كان ذلك نص البرقية التي تسلّمها، قرأها من خلال دخان الشيشة الكثيف الذي يعبئ هواء البيت برائحة التفاح المُتخمر الشبيهة برائحة الروث الجاف.
قرأ البرقية بصوت فخيم، كان يمسك بالورقة بعيدا عن وجهه، كأنه يريد أن يشاطره العالم صدمة الأخبار التي تنقلها برقية مشئومة الى هذه الأحراش النائية، يبعدها عن وجهه حتى يستطيع قراءة كلماتها بدون أن يرهق نفسه بالبحث عن نظارته الطبية، قرأ البرقية وهو يضغط على مخارج الحروف وحوافها، يمرّغها في وحل صوته الغليظ مثل مطرقة، في ضوء الغسق الباهت الزاحف نحو الظلمة الشاملة، الذي أعطى صوته مسحة غرائبية، يستحيل تمييزها عن الخيط الرقيق لحياة موازية تنشأ في سحر الظلمة التي كانت تتدفق من المستنقعات ومن سفوح الجبال والغابات المطيرة، وضوضاء عصافير المغيب. كأنه يقرأ بيانا عسكريا، كأنه يتمرّن على البيان الذي سيقوم بتسجيله خلال أيام قليلة، فتوقف زملائه عن لعب الورق ربما لأنهم كانوا يعرفون ردة أفعاله غير المنطقية التي لا تكون ذات صلة بالضرورة بأية وقائع على الأرض. تشمّم الورقة، كأنه سيجد في رائحة الحبر والورق تفسيرا للكلمات السبع التي إحتوتها البرقية، ثم ألقى بالورقة بعيدا عن أنفه الضخم قبل أن ينفجر ضاحكا!
قال أحد زملائه مندهشا: ما الأمر هل فهمت شيئا آخر غير ما سمعناه؟
ملأ صدره بِالدُّخَانِ قبل أن يقول ببطء، كأنه لا يقول شيئا بل تتدفق الكلمات من جوفه، بسبب امتلاء صدره بِالدُّخَانِ ،: لم أر أبي أبدا!
لم يثر إعلان عقوقه لوالده أية ردة فعل، أثار مجرد ذكر والده بعض الدهشة، كان وجوده يعطي دائما انطباعا بأنه جاء لوحده إلى هذا العالم، خرج وحده من مكان ما، نفض الغبار عن ثيابه واستأنف الحياة كأنه كان موجودا منذ الأزل.
قال زميل آخر: تعني أنه كان مسافرا؟
واصل كلامه البطيء كأنه لم يسمع شيئا، كأنه يرد على شخص غير مرئي يقبع في دواخله، وليس على زملائه الذين خبروا نوبات جنونه العسكرية، أعلن دون حتى شعور بالندم: مات أبي قبل أن أولد!
ضحك زملائه جميعا هذه المرة.
قال أحدهم، كأنه يحثه على قراءة المزيد من هذه الفوضى الإخبارية البريدية: يحدث هذا أحيانا ربما البرقية موجهة لشخص آخر! وحكى الرجل قصة حدثت لهم قبل سنوات، كان والده يعمل لفترة مؤقتة في مدينة بعيدة، حين وصلتهم يوما برقية تفيد بوفاته، وبعد أيام من إقامة العزاء وبدء مراسم الحداد عليه، فوجئوا به يدخل عليهم في البيت بشحمه ولحمه!
نظر حوله بهدوء من لا يرغب حتى في أن يشاركه أحدهم هدوء أعصابه: البرقية موجهة لي شخصيا!
تعني أنهم ربما يقصدون والدتك؟
لا، والدتي بخير.
ثم صمت.
وماذا ستفعل؟
سأسافر غدا، سنعرف غدا كل شيء!
سافر في الصباح، لم يروه مرة أخرى طوال بضعة أيام حتى فوجئوا به في جهاز التلفزيون وهو يقرأ بيان الانقلاب الأول! لم تكن الصور في جهاز التلفزيون واضحة، وبدا لهم صوته مختلفا، لا يشبه الصوت الذي اعتادوا عليه طيلة إقامته معهم في البيت الواقع داخل الحامية العسكرية.
(أيها الشعب الكريم أن قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصونا للعرض والكرامة وتترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية في قيادة الأمة لتحقيق أدنى تطلعاتها في الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي حيث عبرت على البلاد عدة حكومات خلال فترة وجيزة وما يكاد وزراء الحكومة يؤدون القسم حتى تهتز وتسقط من شدة ضعفها وهكذا تعرضت البلاد لمسلسل من الهزات السياسية زلزل الاستقرار وضيع هيبة الحكم والقانون والنظام.
أيها المواطنون الكرام
لقد عايشنا في الفترة السابقة ديمقراطية مزيفة ومؤسسات دستورية فاشلة ،وإرادة المواطنين قد تم تزييفها بشعارات براقة مضللة وبشراء الذمم والتهريج السياسي)
جلسوا بعد نهاية تلاوة البيان، حول جهاز التلفزيون، لا يصدقون ما سمعت آذانهم، حتى أن أحدهم فحص جهاز التلفزيون ليتأكد أن الأمر ليس خدعة ما، معتقدا أن الأمر مجرد مزحة مسجلة على شريط فيديو.
قال أحد زملائه أخيرا وكأنه يخاطب نفسه: هل أنت متأكد أنه كتب هذا البيان بنفسه؟ لم أره يوما يقرأ أو يكتب شيئا!
أعلن ضابط صغير الرتبة: طلب مني مرة واحدة كتابة برقية لأسرته، كنت مصابا بجرح في يدي اليمنى، فاعتذرت أنني لا أستطيع الكتابة، لكنه لم يهتم بكلامي وقال لي : هذا أمر عسكري! اضطررت أن استخدم يدي اليسرى، يبدو أنهم أرسلوا يبلغونه بوفاة شقيق والدته، كتبت برقية تعزية عاطفية جدا وصفت وفاة خاله بالفقد الجلل، ضحك وقال لي حين قرأت له ما كتبت، لا أظن فقده سيكون جللا! كان رجلا بخيلا رغم أنه يملك الكثير من المال! تأخرت وفاته كثيرا! بعض الأغنياء يعيشون أطول من عمرهم الحقيقي! اعرف أبنائه لابد أنهم سعدوا سرا لوفاته! لكنهم بالطبع سيبكون قليلا أمام الناس حتى لا يشعر الناس بشيء!
قال أحدهم ضاحكا: ومن الذي كتب له هذا البيان إذا؟
قال أحد زملائه وكأنه يتذكر شيئا: هل تذكرون وفد حزب (الاخوان المسلمين) الذي زار حاميتنا قبل أشهر، وقدموا لنا بعض التبرعات والمواد الغذائية؟ لقد رأيت رئيس الوفد يتحادث مع الأخ العميد، كنت قد خرجت لالتقاط بعض ثمار المانجو من الأشجار القريبة من البيت، حين وجدتهما يجلسان أرضا خلف الأشجار، شعرت كأنّ ظهوري أمامهما فجأة قد أربكهما قليلا، فانسحبت معتذرا معتقدا أنهما يتحدثان في موضوع شخصي، حزب الإخوان كان هو الحزب الوحيد الذي أبدى اهتماما بالجيش، بل أنّ نوّابهم في الجمعية التأسيسية تنازلوا عن السيارات التي منحتها لهم الحكومة لصالح دعم الجيش! كان واضحا للكثيرين أنّ تبرعاتهم كانت استثمارا، لكن لا أحد توقع أن يتم الأمر بهذه السرعة!
هل تعني أنّ رئيس الوفد اتفق معه هنا خلف أشجار المانجو على قيادة الانقلاب!
لا أعرف لقد قلت لكم ما شاهدته فقط! كانا يتهامسان، من الذي يصدّق أنّ الأخ العميد، يمكن أن يجلس مع شخص ما ليضع خططا للإستيلاء على السلطة أو لأية شئ يمكن أن يحدث غدا، لم يكن الأخ العميد من عشّاق وضع الخطط، حتى وهو يحارب كانت كل تحركاته عشوائية، لا يستطيع أي من رفاقه أن يتنبأ بخطوته القادمة!
لابد أنهم كتبوا له البيان وجعلوه يتمرّن عدة مرّات على قراءته! هل رأيتم كيف مسح عن وجهه كل آثار لا مبالاته، وسخريته من كل ما حوله، لقد بدا في غاية الجدية! لا أصدّق أنه أصبح فجأة جادا ونسي لامبالاته واستهتاره بكل شيء!
هناك من يقف خلفه، أوضح زميل آخر: من يضع له علامات حمراء في كلمات البيان حتى يتجهم وجهه أحيانا، أو يرفع صوته ليؤكد جديته في فرض هيبة الدولة والقضاء على الفوضى الحزبية، أو يخفض صوته وينفرج وجهه قليلا حين يعد الناس بالأمن والرخاء والعدالة!
قال أحد زملائه: لابد إنه قضى الليلة السابقة كلها يقرأ البيان ويعيد قراءته عدة مرات، تحت إشراف الرجل الذي كتبه، حتى يتأكد أنه لن يقع في أية أخطاء أثناء القراءة!
مرّت فترة صمت، كأنهم كانوا في انتظار بيان آخر، يكذّب البيان الأول. كانوا في انتظار أن يأتي أحدهم ضاحكا ويقول: هل أعجبكم أدائه؟ إنه ممثل هاو اقتحم الاستديو بسلاحه وفرض علينا إذاعة هذه الفقرة الضاحكة! انتظروا أن يعلن أحدهم ضاحكا أن ذلك كان برنامج الكاميرا الخفية
يا للكارثة قال ضابط برتبة العقيد: هذا البلد ذاهب إلى الجحيم!
فصل من رواية كهنة آمون.
لتحميل الرواية كاملة. هنا
المصدر: صحيفة الراكوبة