خالد فضل

سيكون أمرا مؤسفا بحق أن يسعى شعب بعد سبعين سنة على استقلاله عن المستعمر الخارجي إلى الخلاص من ربقة المظالم التاريخية التي راكمتها العهود الوطنية , مظالم حقيقية , تواترت وتكاثرت لدرجة قادت إلى انهيار الدولة نفسها , ولو وعي الناس فداحة ومغزى انفصال الجنوب سابقا لتوقفوا عنده مليا حتى يصححوا المسار الذي سارت عليه بلادهم , فقد رفع الجنوبيون مطالب واضحة وصريحة , قاتلوا لعشرات السنين من أجل إحقاق حقهم في المواطنة المتساوية بكل ما تعنيه من كفالة وصون الحقوق الإنسانية العامة التي لا ينتطح حولها عنزان , لكن بعض بني البلد ظلوا دوما ينظرون إلى الشعب بمنظار آحادي في مجتمع متعدد , لم تهجسهم تضحيات بعض الشعب بأرواحه في سبيل نيل حقوقه المفترضة في بلده كما فعلت شعوب جبال النوبة والفونج والشرق القصي ومن بعد دارفور  وهي تخرج حاملة بنادقها في وجه الهيكل الخاوي المسمى حكومات , فلم تتحقق الوحدة الوطنية فعلا  ؛ ل اللهم الا غناء  وشعرا  , ولم يعم السلام المستدام ولم تحدث التنمية الشاملة فما هو الوطن ؟  لقد خرجت الجموع الشبابية رجالا ونساء  في ديسمبر  ,  تهدر بذات مطالب تأسيس البلاد على أسس الحرية السلام والعدالة وهي الأسس القويمة لبناء الوحدة واستدامة السلام.

في صلف الإعتداد بالذات , تنبري الأدبيات لتمجيد السوداني , يوغل الشاعر في ذلك التباهي لدرجة (تصوّر كيف تكون الحال لو ما كنت سوداني) , على سطح أمواج البحر الأبيض المتوسط تأتيه الإجابة الحنظل , الأمواج تلتهم سنويا المئات , آخر مأساة قبل أيام  ؛ ثلاث أخوات شقيقات كن يغامرن للنفاد من ربقة النشيد , يحلمن بالوصول إلى البر الغربي , هناك يحصلن على هوية , لا يغني لها مغن بأعذب الشعر (أكذبه) بل هوية يعيش في كنفها الإنسان إنسانا . ولا ننتبه , بل يتواصل الموال , بأعذب الهتاف أكثره مجافاة للواقع (جيش واحد شعب واحد) , ووسائل الإعلام تحتشد بنقل الصور من نيالا , كاس , دلامي .. إلخ بآلاف الشعب يهتف (حرية سلام وعدالة ) ؛ مثلما هتفت كل شوارع السودان من قبل , دعما لمشروع التأسيس , سندا لبعض جيوش هذه المرّة . فمن هو الشعب الواحد وما الجيش الموحد ؟ الإجابة الصريحة لا تحتاج إلى دريبات (تحتانية) فيما اختراع إجابة للتضليل  يحتاج إلى كم من التحايل والأكاذيب .

ليس لي بلاد . هكذا يمكن أن يجيبك صادقا , شخص محروم من تجديد جواز السفر بسبب موقفه السياسي أو الفكري . أو يتلعثم بها لسان طفل في أول عتبات الحياة ليس له شهادة ميلاد . إنّه كائن موجود على رقعة من الأرض ليس إلا , ليس له هوية ولا عنوان . فهل يصدق الهتاف وتكذب الوقائع , تصدق شاشات نفاق الفضائيات وتكذب سوح البوادي والبلدات . الشاشات معلّقة في الفضاء يرتادها الدجالون والمثقفون على حد سواء , والناس الحقيقيون تدب أقدامها على الأرض تتسلق الجبال أو تركب هائج البحار .

هل ينفع الترقيع , بسبب الضغوط الخارجية , وموازنات مصالح الجيران والإقليم , فيتم لملمة الجرح محشوا بالتراب , يخاط على عفن , أم لابد من تطهير قبل بدء العلاج ؟ وليبدأ التطهير بمواجهة الذات التي تعيش في أوهام , من أنا /نحن ؟ وماذا أريد/نريد ؟

أنا إنسان فقط , هذا هو أساس البنيان , لم يتخيّر أحد ممن هم الآن على سطح الأرض نوعه ذكر/انثى, لون بشرته , هيئة جسده , وظائف أعضائه , أبويه , … إلخ . الناس يولدون أحرارا , قالها عمر بن الخطاب في القرن السابع الميلادي وقالها فلاسفة عصور الوعي  الأوربي في القرن الثامن عشر , لوك وروسو , وقالتها حكومة العالم (الأمم المتحدة ) في القرن العشرين . وقالها من قبل ومن بعد الله رب العالمين .

أريد , حكومة تدير وتنظم لا تقهر وتحطّم , تنازلي عن جزء من حريتي هو مساهمتي الفعلية الطوعية في بناء بلدي على أرضي وليس لتشييد غرفة قطوفها دانية في جنّات رب العباد , هي إلتزامي بالقانون الذي شاركت مسبقا في صياغته ورضيت به وليس قانونا فرضه على شخص آخر دون مشورتي , باسم الإسلام أو الأعراف . أريد وطنا لا أهرب منه بقارب مطاطي في لجّة البحر لأنه تحوّل إلى مقتلة , فتكون المفاضلة بين موت مؤكد وموت محتمل فتختار الشقيقات الثلاث الخيار الأخير , فتبتلعهن أمواج المتوسط الصاخبة , أفضل من اقتناصهن بالرصاص أو معاناة الموت البطئ جوعا أو بسبب وجبة (أمباز) أو إغتصابهن ظلما من أغراب . نعم أغراب , فالوطن لم يتسع لكي يكون كل الناس أحباب , والماهم قراب قربم العمل ,قاعة الدرس ,شاشة التلفاز ,ديوان الوظيفة , جيرة السكن , الحزب والتنظيم , ساحة الذكر والتراويح , ضجة العرس والمهرجان السبر والكجور وفرحة الأعياد .. وإلفة العزاء ,إيه الدنيا غير لمة ناس في خير أو ساعة حزن .

هل تحتاج إدارة وتنظيم شؤون حياة الناس الذين هم على سطح أرض البلد المفترض إلى واعظ , ألا يكفي ؛ شرطي المرور ولوائح السير , المدرس وجدول الدروس , مدير البنك وتيسير القروض , قائد الجيش وتأمين الحدود , المزارع ومواعيد البذور , سائق الترحيل ووقت الحضور , مهندس المعمار وتحديد المقادير  راعي الماشية وأوان الخلب … إلخ كل هذا موجود ومتاح ومبذول خلال أوعية التعليم والتدريب والإرشاد والإعلام وتوفره وسائط المعلومات وزاد من نجاعته (الذكاء الاصطناعي) العجيب , فهل ذكّر الواعظ نفسه أولا بمعنى ما يقول . هل كان الداعية زاهدا عندما يحض المستمعين على الزهد أم يرص العبارات المنمقة من بين أرفف عرض في مولات (استانبول) . هل في القوم (مكاشفي القوم ) .

ذلك هو اساس التاسيس , من أنا وماذا أريد , فهل يجدي الترقيع ؟ في بلد لم يشيّد على الواقع , بل بمقياس مختل لا يرى كل الناس , هذا هو الداء المميت .

 

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.