عبد الله برير

عبدالله برير

يبدو أننا نشهد طوفاناً عاتياً من موسيقى “الراب” أو ما يُصطلح عليه تجاوزاً بذلك قد أغرق منصات التواصل الاجتماعي، مكتسحاً في طريقه وقار الأغنية السودانية الكلاسيكية، لا سيما لدى جيل الشباب الصاعد. إنها نصوص “فطيرة” التكوين الموسيقي، وذات شحٍّ مدقع في المضامين، غارقة في مستنقع من الألفاظ التي لا تمت للشعر بصلة، ولا ترقى حتى لأن تكون نثراً عابراً.
لنتأمل سوياً “الميتافيزيقا” الجديدة للون “البمبي” في أغنية: “بقى ليك بمبي”. لقد انحدر هذا اللون من عليائه الرومانسي في رائعة الأستاذ شرحبيل أحمد “اللابِس البمبي”، حيث كان يتهادى على إيقاعات الجاز الأنيقة، ليتحول إلى قاع المثل الدارجي الذي يربط اللون بالندم والوعيد.
هذا “الراب” الحديث ما هو إلا عملية “لصق” عشوائي للقوافي؛ فالكاتب إن جاز لنا تسميته كاتباً يلقي بجملة ثم يبحث، بكسل شديد، عن أقرب كلمة تصلح قافية صوتية ليردفها بها، دون أدنى اكتراث للمعنى:
بقى ليك بمبي .. تجي تاني جنبي .
ثم ينتقل فجأة إلى عالم النباتات المريرة: هوي بقى ليك حنضل .. تجي تتشنقل. وهنا يتساءل العقل والمنطق: ما العلاقة الجدلية بين “الشنقلة” وبين الغناء والمشاعر والعتاب الإنساني؟ لكن “العبث” يستمر بلا هوادة: بقى ليك ذلة .. ذلة وتجي تتبل. تتكرر لازمة “بقى ليك” بلا اجتهاد، وتقفز القافية لتصل إلى “تتبل”؛ تلك المفردة التي تعد من “مخلفات الحرب” التي تسللت من ساحات المعارك لتلوث ذائقة الغناء.
ويبلغ الإسفاف ذروته حين يستعير المغني عبارات الكيد النسائي التقليدي: بقى ليك كية .. كية واقول أحي! لا أعلم كيف اقتحمت “الكيّة” عالم الغناء، وهي مفردة تُستخدم عادة في سياق المناكفات الاجتماعية البسيطة.
الراب، في أصله، فنٌّ احتجاجي راقٍ، لكنه أصبح مؤخراً مشاعاً لكل “من هب ودب”. وكما أسرّ لي الشاعر الكبير أزهري محمد علي ذات يوم في توصيف فلسفي بليغ لحالنا: “الناس بقت تسمع بأرجلها”. وأزيد عليه، بأن هؤلاء “الرابرز” لا يبذلون جهداً يُذكر؛ موسيقى “مُعلبة” تُرمى عليها خمس كلمات من “سوق الجمعة” لتتصدر “الترند”. والمفارقة العجيبة تكمن في احتفاء الجمهور، وخاصة الفتيات، بهذه الخزعبلات عبر فيديوهات “التيك توك”، حيث تظهر تعابير وجوههن متأثرة بعمق زائف، ولا أدري حقاً مم يتأثرن؟ لا ننكر تاريخياً أن الراب كان وقوداً حيوياً في ثورة ديسمبر، بأغنيات أيقونية مثل: ديل جنجويد رباطة .. الكوز الني جوة الحلة ساطها فرغم تحفظنا على خشونة المفردات، إلا أنها كانت تملك “شرعية ثورية” ساهمت في اقتلاع النظام وشحذ الهمم.
الهذيان في زمن “سولجا” و أديها كولونيا
بتحليل النصوص الفردية، نجد أن “العدمية المطبخية” تطل برأسها في أغنية “دنيا” لـ “سولجا”، حيث لا نواجه مجرد ضعف في المفردة، إنما نجد تياراً يمكن أن نطلق عليه “الدادائية السودانية”. لنتأمل سوياً هذا التسلسل المنطقي “المعطوب”، الذي يبدأ بـ “الحتمية المارسية”: لو حتمارس حمارس .. انا اصلاً والديني في مارس So. هنا، يؤسس الشاعر لقاعدة فقهية جديدة في علم التنجيم والبيولوجيا؛ فالرغبة في “الممارسة” حتمية قدرية مرتبطة بموعد الولادة في شهر “مارس”. وينتقل بعدها إلى “الجيوسياسية المُتبّلة”: حلوة التتبيلة يا .. بس ناقصة بابريكا .. احنا الافارقة .. اولاد ماما افركا. يقفز النص إلى “المطبخ”، مختزلاً الهوية الأفريقية في علبة بهارات؛ فالرابط الوحيد بين قارة “أفريقيا” ومسحوق “البابريكا” هو القافية. أما “الطيور البيروقراطية” و “العلاج بالكولونيا”؛ فقوله: سبعة طيور ادارة يا هو ذروة “الهذيان الشعري”، في حين أن قوله: ما فارقة تدينا جروح .. وما فارقة نديها كولونيا يمثل قمة الاستخفاف بالألم الإنساني، محولاً المعاناة إلى مجرد “رائحة عرق” تحتاج إلى معطر رخيص لتزول.
وتكتمل هذه اللوحة بـ “سادية الفلقة وبلاغة البيش”: وداك خلو يزعل ويتفلق .. خلوهو يشعر بالفرق .. خلوهو يندم وخلو يفتش .. انا مالي ومالو ما يتحرق .. شان تاني يحنك البيش. هنا، يخلع المغني قناع “اللامبالاة الباردة” ليرتدي قناع “الفتوة”؛ فاستخدام مفردة “يتفلق” هو انحدار مروع إلى لغة “المضاربات” الجسدية، ودعوة صريحة للعنف المعنوي. أما “خلوه يشعر بالفرق”، فعبارة تقطر نرجسية استهلاكية، وكأن المغني “سلعة” أصلية والآخر اكتشف أنه اشترى بضاعة مقلدة. وتأتي الطامة الكبرى في وصف الحوار العاطفي بـ “يحنك البيش”. و”البيش” لفظة سوقية تعني ” “الشيء الذي لا قيمة له”. هنا، يُختزل الكلام والمشاعر في كونها “عملة مضروبة”، حيث تُفحص جودة التواصل كبضاعة “فإما أن تكون مكنة وإما أن تطلع بيش”.
حين صدح الفرعون وردي بـ “يا طير يا طاير”، هاجمه النقاد بدعوى الإسفاف! وحين غنى مصطفى سيد أحمد “والرواكيب الصغيرة تبقى أكبر من مدن”، رُفضت القصيدة من قبل لجنة المصنفات الفنية.
بل حتى الحوت، محمود عبد العزيز، لم يسلم من النقد حين غنى “تروح إن شاء الله في ستين” واعتُبرت قسوة غير مبررة. فلماذا يبتلعون ألسنتهم الآن أمام هذا العبث؟ أين نحن من سمو المعاني في: مسامحك ما عشان عينيك .. عشان تتعلم الغفران وتصفح لو زمن جار بيك .. وحاول لو قدرت كمان تقدر رقة الحابيك قارن هذا السمو بالانحدار نحو: بقى ليك بمبي .. وتجي تاني جمبي هوي بقى ليك حنضل .. تجي تتشنقل هوي بقى ليك كية .. وأقول احيااا نعم، أعترف بـ “أصوليتي” الكلاسيكية، وسأظل مرابطاً عند تخوم الذوق الرفيع، متمسكاً بـ: كان نفسي اقولك من زمان .. سطوة محاسنك عندي وقتين كبريائك ينهزم لطيبتي بلفظة حنان.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.