حمور زيادة


حمّور زيادة

قضت المحكمة الجنائية الدولية يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بإدانة المتّهم السوداني علي كوشيب بمجموعة من التهم المتعلّقة بحرب إقليم دارفور. وجدته مذنباً في 27 تهمةً من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية. وترتبط إدانة هذا الشخص بالاتهامات الموجّهة إلى الرئيس السابق عمر البشير، وأركان في نظامه وقيادات في الجيش، وبعض القادة المحلّيين الذين جنّدوا لمصلحته مليشيا الجنجويد، التي بدأ منها محمّد حمدان دقلو (حميدتي)، الرجل الذي تحوّل بعد سنوات من قاتل لمصلحة النظام إلى منافس له.

هذه الإدانة المهمّة انتظرتها أرواح مئات آلاف من السودانيات والسودانيين، الذين راحوا ضحية الإبادة الجماعية، والجرائم التي ارتُكبت في دارفور، برعاية السلطة وتنسيقها ومباركتها وقتها. مئات آلاف من الأطفال والنساء والمدنيين دفنوا في قبور جماعية، وتعرّض أحياؤهم للتهجير القسري. وانتظرها آلاف السودانيات والسودانيين الذين عملوا على وقف الإبادة وتوثيق الجرائم والنضال من أجل محاسبة مرتكبيها. قدّم المدافعون عن حقوق الإنسان والسياسيون أثماناً باهظةً من أجل هذا اليوم، إذ فقد بعضهم أرواحهم، بينما عانى آخرون من الاعتقال والتضييق والمنافي. لكن ساعة الانتصار لضحايا الحرب الأهلية التي بدأت في 2003 في الإقليم المنكوب، أتت ولو بعد حين.

ليست إدانة كوشيب “الجائزة الأخيرة”، ولا تعني تحقّق العدالة كاملةً، لكنّها بداية. ما كان الوصول إلى إدانة في جرائم دارفور أمراً هيّناً. حارب نظام البشير المحكمة الجنائية الدولية (ضمن صراعه مع المؤسّسات الدولية، والعداء مع العالم كلّه تقريباً)، واتهم كل من تعاون معها من السودانيين بالخيانة، وواجه بعضهم تهماً جنائية بالتجسّس (!). طارد نظام البشير كل من أدان جرائم دارفور، حتى إنه في عام 2016 أعلن نيّته مقاضاة منظّمة العفو الدولية لأن تقاريرها توثّق الانتهاكات ضدّ المدنيين.

وعقب تولي المجلس العسكري السلطة في 2019، لم يرحّب الجيش السوداني بالتعامل مع المحكمة الجنائية، رغم ترحيب حكومة عبد الله حمدوك لاحقاً، وتعاونها القصير معها، الذي انتهى بانقلاب 25 أكتوبر (2021). حافظ الجيش على هذا الموقف حتى بعد إعلان إدانة علي كوشيب، فلم يصرّح مجلس السيادة، ولا حكومة رئيس الوزراء المعيّن كامل إدريس، بأي شيء يخصّ الأمر، كأنه لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. وربّما اكتفى بتصريح النائب العام السابق (ديسمبر/ كانون الأول 2024)، الذي رفض فيه محاكمة كوشيب أو غيره خارج السودان، و”طمأن” المجتمع الدولي بأن المؤسّسات العدلية في السودان قادرة على محاسبة أيّ متّهم. قضى النائب العام فترة عمله كلّها في مطاردة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، ومجموعة من السياسيين المعارضين للحكم العسكري، بتهم وبلاغات جنائية، بينما يجول قادة نظام البشير الهاربين من السجون علناً، ويشاركون في السياسة، ويعقدون الاجتماعات، ويخاطبون الرأي العام. هم أنفسهم الذين صنعوا “الدعم السريع” لتقاتل عنهم في دارفور، ومن شاركوه جرائمه في الإقليم. المدهش أن من سارع بالترحيب تحالف “تأسيس”، الذي يرأسه قائد الدعم السريع حميدتي، وهو ليس أحد المتورّطين في الإبادة الجماعية سابقاً فقط، بل هو أيضاً أحد مجرميها حديثاً بعد حرب 15 إبريل (2023). بحسب الأمم المتحدة، قتلت “الدعم السريع” ما بين عشرة مواطنين إلى 15 ألف مواطن في مدينة الجنينة عند بداية الحرب. وصف تقرير أممي ما ارتكبه جند حميدتي بأنه قد يرقى إلى جرائم الحرب. هذا غير مئات الجرائم المرتكبة في ولاية الجزيرة (وسط السودان) والعاصمة الخرطوم. وهي جرائم طالب مجلس حقوق الإنسان بتحويلها إلى الجنائية الدولية، لكن السلطة العسكرية رفضت هذا الأمر سابقاً، لكنّ ذلك يعود حالياً إلى الساحة عقب إدانة كوشيب.

لا يمكن أن تكون هذه الادانة المتأخّرة لأحد قادة المليشيات المتورّطة في جرائم إقليم دارفور نهاية المطاف. ومحاسبة كل من تورّط في الدماء يجب أن تكون الأساس الذي تُبنى عليه الدولة السودانية، بعد عقود طويلة من تكريس مبدأ الإفلات من العقاب والعفو عن المجرمين. لكن السياسة وموازناتها تذبح العدالة على عتباتها. ويبقى ملفّ جرائم إقليم دارفور مفتوحاً، كما ملفّ ضحايا حرب إبريل، وضحايا القمع السلطوي الوحشي في انتظار مزيد من العدالة، وإن رغم أنف السياسة.

نقلاً عن العربي الجديد

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.