بعدما عز الطعام.. سودانيون يقتاتون على التراب وأوراق الشجر
أصبح التراب طعام المضطرين من سكان بعض مناطق السودان بعد أن عز الغذاء كما هو الحال في مخيم اللعيت للنازحين.
فالمخيم الفقير الكائن في شمال دارفور يشهد تدفقا جديدا للنازحين مع اتساع رقعة القتال في الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو عام في السودان لتشمل مساحات واسعة من البلاد، ووسط حملة تطهير عرقي في دارفور.
وقرنق أشين أكوك هو واحد من آلاف الوافدين الجدد إلى المنطقة. وقال أكوك إنه وزوجته وأطفالهما الخمسة تركوا منزلهم في منطقة كردفان بالجنوب بعد أن اقتحمت ميليشيات عربية على ظهور الجمال قريتهم وأحرقت كوخهم.
ووصل أكوك (41 عاما) إلى اللعيت في ديسمبر كانون الأول، لكنه بلا عمل ولا يستطيع إعالة أسرته. وفي بعض الأحيان، يمضون يومين أو ثلاثة أيام دون طعام. وقال أكوك إنه عندما يحدث ذلك، فإنه ينظر بلا حول ولا قوة إلى زوجته وأطفاله وهم يحفرون حفرا في الأرض ويدخلون أيديهم فيها ويلتقطون بعض التراب ويصنعون منه كرات ويضعونها في أفواههم ويبتلعونها بالماء.
وقال “أظل أقول لهم ألا يفعلوا ذلك.. لكنه الجوع… ليس بوسعي أن أفعل أي شيء”.
يتفشى الجوع وتكشر المجاعة عن أنيابها في السودان، وسط غياب أي مؤشرات على تراجع حدة الحرب التي اندلعت في أبريل نيسان من العام الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية.
والتوقعات مؤلمة وصادمة حسبما تشير مقابلات أجريت مع أكثر من 160 مدنيا عصف بهم القتال وما يزيد عن 60 من موظفي الإغاثة وخبراء الأمن الغذائي، فضلا عن مراجعة المسوحات الغذائية التي تجريها وكالات الإغاثة. كما أمضى مراسلون لرويترز ما يقرب من أسبوع في أم درمان الشهر الماضي، وهي واحدة من المدن الثلاث التي تشكل العاصمة الخرطوم، وأجروا مقابلات مع أشخاص يئنون تحت وطأة النقص الحاد في الغذاء.
وصارت أجزاء من السودان على شفا مجاعة من صنع الإنسان تعتمل منذ فترة. فقد انهار قطاع الزراعة في ظل سرقة قوات الدعم السريع المحاصيل من المزارعين واضطرارهم للفرار من أراضيهم بسبب أعمال العنف. وصار الجوع سببا آخر للنزوح، وليس القتال وحده، إذ يهجر البعض منازلهم بحثا عن الطعام. وتنتشر الملاريا وأمراض أخرى بين النازحين. وتتعرض مراكز المساعدات الرئيسية للنهب من قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها. ويمنع الجيش المساعدات الدولية التي تصل إلى السودان عن مناطق بدأت فيها المجاعة بالفعل.
وقالت آنيت هوفمان التي أعدت تقريرا لمؤسسة كليجندال البحثية التي مقرها هولندا عن أزمة الغذاء في السودان “تسببت الحرب في أكبر أزمة جوع في العالم… من المرجح أن تحدث مجاعة لم نشهدها منذ عقود”.
ولم يرد الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على أسئلة عن تفاصيل في هذا التقرير. وقالت وزارة الخارجية السودانية، وهي جزء من الحكومة التي يقودها الجيش، إنها ملتزمة بتسهيل إيصال المساعدات، واتهمت قوات الدعم السريع بنهب وعرقلة المساعدات. وقال الفريق إبراهيم جابر مساعد القائد العام للقوات المسلحة إن السودان لن يسقط في براثن الجوع ولديه “أكثر مما يحتاج”. وقال بعض سكان الخرطوم إن الجيش قدم في بعض الأحيان كميات محدودة من المساعدات الغذائية وسط القتال.
ونفت قوات الدعم السريع ارتكاب أعمال نهب، وقالت إنها ستحاسب أي عناصر مارقة في صفوفها، متهمة الجيش بتعطيل إيصال المساعدات.
ومن أجل البقاء على قيد الحياة يلجأ الناس في أنحاء السودان إلى تدابير يائسة. ففي غرب دارفور، لم يجد المزارعون ما يسد رمقهم سوى البذور التي كانوا قد اشتروها لغرسها، بعد أن نهبت قوات الدعم السريع أراضيهم. وفي منطقة كردفان، باع البعض أثاثهم وملابسهم للحصول على نقود لشراء الطعام. وفي الخرطوم، لم يجد سكان محاصرون في منازلهم خيارا سوى قطع أوراق الأشجار وغليها وأكلها.
ويشير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو أداة عالمية لرصد الجوع، إلى أن ما يقرب من 18 مليون شخص في السودان، أي أكثر من ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 49 مليونا، يواجهون “مستويات عالية من الانعدام الحاد للأمن الغذائي”. وتشير تقديراته أيضا إلى أن من بين هذا العدد، هناك ما يقرب من خمسة ملايين على بعد خطوة واحدة من المجاعة.
وقال في مارس آذار إن هناك حاجة إلى إجراء فوري “للحيلولة دون تزايد أعداد الوفيات والانهيار التام لسبل العيش وتجنب أزمة جوع كارثية في السودان”. وأضاف أنه لم يتمكن من تحديث التوقعات التي قدمها في ديسمبر كانون الأول بسبب صعوبة الحصول على البيانات من مناطق الصراع وانقطاع خدمات الإنترنت والهواتف عن معظم أنحاء السودان.
ووضع تقرير كليجندال ثلاثة تصورات للسودان. وأكثر هذه التصورات تفاؤلا أن تعصف المجاعة بستة في المئة من السكان. وفي أسوأ الحالات، سيعاني 40 بالمئة من المجاعة خلال الجفاف بين مواسم الحصاد، والذي يبدأ في مايو أيار ويستمر حتى سبتمبر أيلول.
وفي بعض الأماكن، يموت الناس بالفعل. وخلصت تقديرات منظمة أطباء بلا حدود إلى وفاة طفل واحد في المتوسط كل ساعتين في مخيم زمزم الضخم للنازحين في شمال دارفور نتيجة المرض وسوء التغذية.
وعلى الرغم من الأزمة الغذائية التي تطبق على البلاد، لم يحظ الوضع في السودان بقدر معتبر من التدقيق الدولي مقارنة بالأزمات الإنسانية الأخرى في أماكن مثل أوكرانيا وغزة. ويطلق بعض المراقبين على الصراع في السودان وصف “الحرب المنسية”.
وقالت تشاسا لطيفي كبيرة مستشاري برامج الصحة العالمية في منظمة الإغاثة بروجكت هوب “أكبر تحد يواجهنا هو التمويل وقلة الاهتمام بالسودان… هناك اهتمام كبير بكل من أوكرانيا وغزة لدرجة أنه لا توجد فرصة لدى أي أحد للتفكير في السودان أو حتى الاستماع لما يحدث هناك”.
ولم تفلح الضغوط الدولية على طرفي الصراع حتى الآن في حل أزمة إيصال المساعدات. وحملت إيزوبيل كولمان نائبة مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كلا من قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) المسؤولية عن عدم وصول المساعدات للسكان.
وقالت لرويترز “يتحملان مسؤولية شبح المجاعة التي تلوح في الأفق… الناس حرفيا يموتون كل يوم بسبب عدم إمكانية الحصول على الغذاء وغيره من الضروريات”.
وأبدى بعض مسؤولي الإغاثة وخبراء التغذية قلقا إزاء تأخر صدور أحدث تقييمات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي بشأن أزمة الغذاء في السودان.
وقالت هوفمان من مؤسسة كليجندال إنه عندما يتسنى صدور تحليل جديد، سيكون الأوان قد فات لتقديم المساعدات وإنقاذ الأرواح. وطالبت التصنيف المرحلي المتكامل بالإعلان عن أن هناك خطر مجاعة.
وفي حين أن التحذير من حدوث مجاعة لا يستتبع أي تعهدات ملزمة على الأمم المتحدة أو الحكومات، فإن من شأنه توجيه اهتمام العالم نحو وضع الأزمة وحشد الموارد اللازمة لتقديم مساعدات طارئة. وبشكل عام، فإن إعلان المجاعة في مكان ما يصدر عن الحكومات والأمم المتحدة.
وقالت فاطمة الطاهر مديرة التصنيف المرحلي المتكامل في السودان، وهي أيضا مسؤولة حكومية، إنه ليس هناك تأخير في إصدار التحليل وإنه سيتم إصداره في مايو أيار.
* جوع في الخرطوم
لا يقتصر الحرمان على الفقراء. وحتى قبل الحرب، كان السودان يواجه فقرا متفشيا وجوعا واسع النطاق. وتقول الأمم المتحدة إن السودان صار يعاني من أكبر أزمة نزوح، إذ إن واحدا من كل ثمانية نازحين في العالم سوداني. وتسبب القتال في انهيار الاقتصاد، مما أثر على الجميع دون تمييز.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن ما يقرب من نصف السكان يعانون البطالة. وانهار النظام المصرفي الرسمي، مما حال دون إمكانية وصول المواطنين إلى ودائعهم. وأدى انقطاع خدمات الاتصالات إلى حرمان الناس من شريان الحياة الرئيسي المتمثل في تحويل الأموال عبر الإنترنت. وأشار وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم إلى انكماش الاقتصاد 40 بالمئة بسبب الحرب.
وفي أحياء الطبقة المتوسطة بالخرطوم، صارت الحياة معركة يومية يسودها الجوع والخوف، إذ يجد الناس أنفسهم محاصرين بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وبالنسبة للينا محمد حسن وأسرتها، يتسلل وحش المجاعة ببطء.
وبعد اندلاع الحرب العام الماضي، سقطت قذائف مورتر حول منزلها في حي بانت بأم درمان. وقالت لينا (32 عاما) إنه كانت هناك أيام يبدأ فيها القصف في الخامسة صباحا ويستمر طوال اليوم. ويجعل ذلك الخروج للبحث عن الطعام محفوفا بالمخاطر.
وضربت قوات الدعم السريع حصارا على مناطق في أنحاء العاصمة مثل حي بانت القريب من قواعد الجيش السوداني في محاولة للتضييق على القوات التي تحاول وقف تقدمها. وبدأ الطعام يختفي. ودمر القتال الأسواق. وقال سكان إن أموال الناس نفدت بعد أن نهبت قوات الدعم السريع بنوك الخرطوم وأخذوا منها أكواما من الأوراق النقدية والذهب. ونفت قوات الدعم السريع تورطها في أعمال نهب.
واضطر ذلك لينا وعائلتها المكونة من 11 فردا للتحول إلى وجبات تتكون في الأساس من العدس والأرز. وقالت “حتى هذا كان من الصعب الحصول عليه لأن الأسعار صارت خمسة أضعاف الطبيعي”.
ويقول سكان إنه بحلول نوفمبر تشرين الثاني، كانت قوات الدعم السريع قد قطعت الكهرباء وخط أنابيب المياه الرئيسي عن بانت. وبدأ جنود من قاعدة عسكرية قريبة ومدنيون في اصطياد القطط لأكلها. وقالت لينا إن النساء اللائي يحملن الطعام يتعرضن للتفتيش عند نقاط أمنية تابعة لقوات الدعم السريع، ويُتهمن بدعم الجيش ويتعرضن للضرب والاعتداء الجنسي.
ولم تحدث طرود الأغذية التي أسقطها الجيش جوا على الحي فرقا يذكر. وقالت لينا إن الطرود تحطمت عندما اصطدمت بالأرض واختلط الطعام بالتراب. وبمرور الوقت، أصبح من المستحيل الحصول على أي شيء، لا مال ولا طعام.
وقالت إن الجنود كانوا يتقاسمون طعامهم في بعض الأحيان مع أطفال عائلتها، وبدأت هي والبالغون الآخرون في عدم تناول بعض الوجبات، أحيانا ليومين متواصلين، حتى يتمكن الصغار من تناول الطعام. وصارت أوراق الأشجار المغلية في الماء مع بعض البهارات جزءا من نظامهم الغذائي.
وقالت “حاولنا نبعد عن ورق الشجر السام.. فقط أوراق شجر المانجو والليمون والجوافة.. الأطفال كانوا بياكلوها.. كانوا جعانين ما يقولوا لا”.
وفي أواخر فبراير شباط، بعد أن أحرز الجيش تقدما في بانت، تمكنت لينا وعائلتها من الفرار إلى جزء آخر من أم درمان تحت سيطرة الجيش السوداني. وتحدثت لرويترز الشهر الماضي من شقة هناك.
ولا يزال الناس محاصرين في أكثر من 12 منطقة بالخرطوم. وأفادت هيئة عالمية معنية بانعدام الأمن الغذائي، وهي شبكة أنظمة الإنذار المبكر من المجاعة، في مارس آذار بأن هناك مناطق في العاصمة عرضة “لخطر المجاعة” إذ إن طرفي الصراع “يستخدمان تكتيكات شبيهة بالحصار ليقطع كل منهما الإمدادات عن خصمه”.
* لا ملاذ من الجوع
قالت كثير من الأسر التي حوصرت في العاصمة لرويترز إنها تريد الفرار، لكن القصص التي سمعتها عن تعرض نساء للاغتصاب وعن اعتقال وقتل شبان على أيدي قوات الدعم السريع تجعلها تحجم عن ذلك.
وخلصت واحدة من سكان بانت تبلغ من العمر 24 عاما إلى أنها ليس أمامها خيار سوى محاولة الهروب عندما أخبرها طبيب في نوفمبر تشرين الثاني بأن ابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات قد لا ينجو إذا بقوا في الحي.
وقالت إنها كانت تطعم ابنها بضع ملاعق من الحمص يوميا لعدة أشهر، ورغم أنها كانت حبلى، كانت تضطر إلى تفويت بعض الوجبات. وبعد أن أنجبت طفلة، لم تكن قادرة على الرضاعة الطبيعية ولم تتمكن من العثور إلا على حليب صناعي منتهي الصلاحية لإطعام مولودتها الجديدة. وقالت إن ابنها أصيب بفقر الدم وكان يتقيأ بشكل متكرر.
وعلى طريق الخروج من بانت، كان يتعين عليها المرور عبر نقاط تفتيش تسيطر عليها قوات الدعم السريع. وقالت إن رجال الميليشيات الذين كانوا يبحثون عن النقود والمصوغات الذهبية ضربوها بالسياط وتحسسوا جسدها أثناء تفتيشها. وأُجبرت بعض النساء على التجرد من ملابسهن. وقالت إن الجنود اغتصبوا امرأة أمامها. وأكدت جارة لها هربت معها هذه الرواية.
وقالت المرأة التي تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها “شفت نسوان بيسحبوهم علي بيوت فاضية.. تحرشوا في ومسكوا فيني ثلاث أو أربع مرات”.
وأضافت أنه عندما وصلت الأسرة أخيرا إلى منطقة يسيطر عليها الجيش في أم درمان كانت على وشك الانهيار في ظل معاناتهم من الجوع والجفاف والمرض.
وحتى أولئك الذين فروا من القتال إلى منطقة أم درمان التي يسيطر عليها الجيش يقولون إنه ليس لديهم سوى القليل من الطعام، لأنهم بلا مورد للرزق ولأن المواد الغذائية المتوفرة في الأسواق باهظة الثمن. وكان هناك معلمون ومحامون وصيادلة من بين أولئك الذين اصطفوا مرارا في مارس آذار أمام المطابخ الجماعية للحصول على وجبات مجانية من الفول والعدس قد تكون اللقيمات الوحيدة التي ستدخل جوفهم خلال اليوم.
وقالت الصيدلانية فاطمة صالح إنها تقف لساعات في طابور للحصول على ثلاث مغارف من العدس أو الفول لعائلتها المكونة من أربعة أفراد منهم والدتها المريضة. وقالت وهي تصف المرة الأولى التي وقفت فيها في طابور الوجبات المجانية إنها بكت بشدة.
وذكرت سحر موسى التي فرت مع زوجها وأطفالها الثلاثة أنها كانت تعيش حياة رغدة في الخرطوم قبل الحرب، وكان زوجها يكسب جيدا من عمله مهندسا ميكانيكيا.
وعندما يقول لها أطفالها إنهم جوعى، تخبرهم بأن والدهم سيأتي بالطعام، على الرغم من أنها تعلم أنه لن يفعل ذلك. وقالت “أحيانا أتمنى أن تقتلني قذيفة حتى لا أرى أطفالي يبكون من الجوع”.
وصارت بورتسودان مركزا لجميع المساعدات منذ أن انتقلت الحكومة ووكالات الإغاثة إلى هناك بعد سيطرة قوات الدعم السريع على جزء كبير من الخرطوم. ومع ذلك، يواجه النازحون سوء التغذية والأمراض في المدينة الساحلية. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى فرار ما يقرب من ربع مليون شخص منذ بداية الحرب إلى ولاية البحر الأحمر التي عاصمتها بورتسودان. وتحولت عشرات المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين.
وطفحت مياه الصرف الصحي في مخيم الشاحنات للنازحين ببورتسودان، عندما زارته مراسلة رويترز الشهر الماضي. وتسنت رؤية أطفال يتجولون حفاة وبطونهم منتفخة بسبب سوء التغذية.
* “سرقوا قوت الناس”
تدمر الفوضى التي تعصف بمناطق كانت يوما بمثابة سلة غذاء للسودان الإمدادات الغذائية. فقد خلص تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في مارس آذار إلى أن السودان شهد انخفاضا بنسبة 46 بالمئة في إنتاج الحبوب في 2023 مقارنة بالعام السابق.
ويتعرض المحصول للنهب في منطقة الجزيرة الواقعة جنوبي العاصمة والتي تساهم بأكثر من نصف إنتاج البلاد من القمح. ويؤدي هذا إلى إفقار المزارعين ويعرقل قدرتهم على تمويل زراعة محاصيل جديدة.
وزرع خالد مصطفى، وهو أحد المزارعين في ولاية الجزيرة، نحو عشرة أفدنة بالذرة والعدس العام الماضي. وكان يخطط لبيع المحصول بعد الحصاد في السوق المحلية لتسوية ديونه وتغطية نفقات الموسم الزراعي القادم.
لكن في فبراير شباط، اقتحم أفراد من قوات الدعم السريع منزله، ودفعوه أرضا ووضعوا سكينا على رقبته، وأجبروه على تسليم محصوله بالكامل، والذي كان 110 أجولة من الذرة والعدس. وأضاف أنهم استولوا أيضا على شاحنات ومعدات أخرى.
وتشير شهادات العديد من السكان إلى أن قصة مصطفى تكررت في عشرات القرى في الجزيرة منذ أن شنت قوات الدعم السريع هجومها على الولاية في ديسمبر كانون الأول. ووصف المزارعون كيف كان رجال يرتدون زي قوات الدعم السريع يستقلون شاحنات صغيرة ودراجات نارية ويتنقلون من منزل إلى منزل ويعتدون على السكان ويستولون على ممتلكاتهم ويجبرونهم تحت تهديد السلاح على نقل محاصيلهم إلى مركبات قوات الدعم السريع.
وأثناء نهب القرى، دمر رجال الميليشيات ألواحا شمسية تستخدم لتشغيل المولدات التي تساعد في سحب المياه من الآبار العميقة. وتحدث مزارعون أيضا عن سرقة الوقود اللازم لتشغيل مطاحن الدقيق، مما ترك سكان القرى دون أي وسيلة لطحن الحبوب والحصول على الدقيق (الطحين) المستخدم في صنع العصيدة، وهي من الأطباق الرئيسية في المطبخ السوداني.
وقال مصطفى “ده اللي سبب الجوع. سرقوا قوت الناس.. ده قوت الناس”.
وقال مزارعون إن من هاجموهم، رغم أنهم كانوا يرتدون في كثير من الأحيان زي قوات الدعم السريع، لا يبدو أنهم جزء من منظومة واضحة. فهم مجموعات صغيرة تضم الواحدة نحو 20 فردا لكل منها قائدها الخاص. كما فرضت قوات الدعم السريع ضريبة انتقال في أماكن مثل دارفور والجزيرة تجبر المزارعين على دفع ضريبة أثناء تنقلهم.
وقال أحمد عمر الذي يمثل جماعة من المزارعين بالولاية إن الأضرار “غير المسبوقة” التي لحقت بالزراعة جراء هجمات قوات الدعم السريع في الجزيرة ستؤثر على الموسم المقبل. وقال “لم يتبق شيء في الجزيرة لبدء الموسم القادم.. لا مزارعين ولا مكنات”.
وتعاني مناطق حيوية أخرى منتجة للحبوب تخضع إلى حد كبير لسيطرة قوات الدعم السريع، منها دارفور وكردفان، من انخفاض مماثل في الإنتاج. وقال رين بولسن مدير مكتب الطوارئ والصمود لدى منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إنه يتعين اتخاذ إجراءات فورية “لمنع زيادة الوفيات المرتبطة بالجوع وانهيار سبل العيش”.
كما أدى القتال إلى تدمير المطاحن ومصانع المواد الغذائية والمزارع.
وحتى المصنع الوحيد في السودان الذي ينتج أغذية علاجية للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية أتى عليه القتال أيضا. وقالت ندى يعقوب نائبة مدير شركة (ساميل) وابنة صاحب المصنع إن المصنع احترق بعدما إصابته قذيفة في مايو أيار الماضي.
وتوقف منذ ذلك الحين إنتاج عجينة الفول السوداني لمعالجة الهزال عند الأطفال. وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إن ساميل كان ينتج 60 بالمئة من هذا الغذاء العلاجي للأطفال في السودان.
وقالت ندى يعقوب “إنها خسارة فادحة” في وقت يحوم فيه شبح المجاعة.
* مساعدات لا تصل
بينما يمسك الجوع بتلابيب عدد متزايد من السودانيين، تسعى وكالات الإغاثة الدولية جاهدة لتوصيل الأغذية والعقاقير إلى المناطق التي يعاني فيها الناس من المرض والجوع.
وقال جاستن برادي، مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان إن وصول شاحنة مساعدات إلى دارفور قادمة من بورتسودان في الشرق حيث يتم تخزين معظم المساعدات قد يستغرق نحو 40 يوما. وأضاف أن ذلك يشمل التأخير في “الحصول على تصاريح المرور اللازمة”. ويتعين على شاحنات الإغاثة اجتياز مناطق متنوعة تسيطر عليها مجموعات مختلفة تتضمن قوات الدعم السريع وعصابات إجرامية ورجال قبائل.
ويقول عمال إغاثة إنه منذ ديسمبر كانون الأول، لم تفلح المساعدات القادمة من الشرق في الوصول إلى جزء كبير من دارفور أو منطقة كردفان أو الخرطوم. ولم تدخل إلا بضع عشرات من الشاحنات عبر تشاد في الغرب.
وجاء في دراسة استقصائية أجرتها أواخر العام الماضي منظمة (هيومانيتريان أوتكمز)، التي تقدم النصح لوكالات الإغاثة والحكومات المانحة، أن المساعدات الإنسانية لم تصل عموما إلا إلى 16 بالمئة ممن يحتاجونها.
ويقول مسؤولو إغاثة إن الجيش السوداني زاد من صعوبة توصيل الإمدادات الغذائية والطبية إلى المناطق التي تحتاجها بشدة. ففي رد على مناشدات قوات الدعم السريع للوكالات لتوصيل المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها، قال البرهان، قائد الجيش السوداني، في فبراير شباط “لن يحدث ذلك حتى ننهي هذه الحرب ونهزم هؤلاء المتمردين المجرمين ونطردهم من منازل المواطنين”.
وقال محمد قزلباش، مدير مكتب منظمة بلان إنترناشونال للمساعدات الإنسانية في السودان، “غير مسموح بانتقال المساعدات من القوات المسلحة السودانية إلى قوات الدعم السريع… الغذاء يستخدم سلاحا في الحرب”.
وجاء في تقرير لرويترز في أواخر فبراير شباط أن الجيش أصدر أمرا يحظر عبور المساعدات من تشاد إلى دارفور. وقالت الحكومة التي يسيطر عليها الجيش في وقت لاحق إن الممر الإنساني إلى شمال دارفور مفتوح. لكن قزلباش قال لرويترز في أواخر مارس آذار إن حجم المساعدات التي تنتقل عبر طريق شمال دارفور “هزيل”.
وأفاد عشرات من مسؤولي الإغاثة في حديثهم مع رويترز بأنه منذ بداية الحرب فرضت الحكومة التي يقودها الجيش متاهة من القواعد البيروقراطية التي تعرقل بشدة توزيع الغذاء. وشكلت الحكومة لجانا جديدة للتعامل مع المساعدات تتداخل صلاحياتها مع اللجنة الوطنية العليا المشتركة للطوارئ الإنسانية والصحية، وهي ذراع المساعدات الرئيسي للحكومة. وقال مسؤولو إغاثة إن هذه الخطوة تسببت في حدوث ارتباك وتأخير لأنه أصبح يتعين الحصول على موافقات الآن من عدد من الإدارات.
واحتاجت منظمة وورلد فيجن، وهي وكالة إغاثة، أربعة أشهر للحصول على التوقيعات والأختام المطلوبة من السلطات للسماح لها بفتح مركز لعلاج الكوليرا في ولاية الجزيرة، بعد تقارير عن تفشي المرض هناك. وقال جيفري بابوجيرانا مدير الصحة والتغذية في المنظمة “أخشى أن نكون قد فقدنا أطفالا وأمهات بسبب الكوليرا أثناء انتظار إنهاء الإجراءات الورقية”.
وأخيرا افتتح مركز الكوليرا في ديسمبر كانون الأول، لكنه لم يعمل إلا ستة أيام. وفي اليوم السابع، اقتحمت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، واضطرت جميع وكالات الإغاثة إلى الرحيل.
وذكر بابوجيرانا “كان الأمر مفجعا حين غادرنا”.
وأشار مسؤولون من منظمات إنسانية إلى أنه تم الضغط على وكالات الإغاثة أيضا لتشغيل موظفين حكوميين محليين للإشراف على العمل الذي تقوم به الوكالات، مثل مسوح تقدير الاحتياجات الغذائية. وقال مسؤول إن الوكالة التي يعمل لديها اضطرت إلى تعيين فريق من اللجنة الوطنية العليا المشتركة للطوارئ الإنسانية والصحية ودفع رواتبهم خلال اضطلاعهم بإجراء مسح لتقييم الاحتياجات في ولاية نهر النيل التي يسيطر عليها الجيش السوداني. وقال المسؤول “ندفع أموالا ما كان يجب أن ندفعها”.
وقال مسؤولو إغاثة إن الإمدادات الغذائية في مراكز الإغاثة الرئيسية مثل الجزيرة تعرضت للنهب أيضا من قوات الدعم السريع غالبا.
وحين اجتاحت قوات الدعم السريع الجزيرة في ديسمبر كانون الأول، قدم مسؤولو الأمم المتحدة لقادة الدعم السريع إحداثيات المستودعات التي كانت تضم آلاف الأطنان من المساعدات أو ما يكفي لإطعام نحو 1.5 مليون شخص لمدة شهر في الولاية. وقال برادي، مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان، إنهم قدموا أسماء المواقع على أمل حماية المساعدات وحصلوا على تأكيدات من قوات الدعم السريع بذلك.
لكن كل المساعدات الموجودة في المستودعات سُرقت تقريبا. وقال إيدي رو، المدير القطري لبرنامج الأغذية العالمي في السودان، إن ما تبقى لا يستطيع البرنامج الوصول إليه بسبب القتال.
ونفى عز الدين الصافي، وهو مستشار لقوات الدعم السريع، أن تكون القوات قد نهبت مخازن المساعدات، ووصف ذلك بأنه “مبالغات إعلامية”.
وذكر رو أن موسم الأمطار في السودان يقترب أيضا مما سيجعل اجتياز الطرق عسيرا والوصول إلى مناطق بأكملها متعذرا في أماكن مثل دارفور وكردفان. وأضاف “نسابق الزمن”.
* الموت في دارفور
مخيم اللعيت، حيث يقتات الناس على التراب، مجرد واحد من 13 مخيما للنازحين في منطقة نائية في شمال دارفور يلجأ فيها السكان إلى أكل التراب وأوراق الأشجار، وفقا لسكان وفرق طبية وعمال إغاثة تحدثوا إلى رويترز عبر الهاتف.
وسكان المخيمات الأصليون لاجئون من جنوب السودان فروا من الصراع والجوع، ثم انضم إليهم الآن آلاف من النازحين السودانيين الفارين من القتال.
يقول فيصل محمد الذي يعمل في منظمة صحاري للتنمية، وهي منظمة محلية للإغاثة، إنه لم يصدق أن الناس يأكلون التراب حتى شاهد بنفسه ذلك في عدة مخيمات. وقال “لما تكون البطن خاوية الناس تحاول تملاها بأي شيء”.
وقال كثيرون من السكان لرويترز إن الأطفال الذين أكلوا التربة أصابهم القيء والإسهال.
وقبل الحرب، كان سكان المخيم يعملون في الحقول ويتقاضون أجورهم في صورة نسبة من المحصول بلغت نحو 20 بالمئة. وكانوا يعتمدون بشدة أيضا على المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي. لكن مع انتشار القتال تعرقل وصول المساعدات الإنسانية. أما المزارعون الذين يعانون من ارتفاع كلفة الأسمدة والمبيدات الحشرية ونقص التمويل، فقد قاموا بتقليص المساحات التي يزرعونها مما حرم عمال المزارع من وظائفهم.
وحاليا، تعمل بعض النساء في بلدة مجاورة في غسل الملابس ويكسبن ما يصل إلى دولار واحد في اليوم، وهو ما يكفي لشراء الدقيق (الطحين)والسكر لصنع حلوى تسمى مديدة.
وقال سكان إنه حين لا يتوفر عمل يبيتون على الطوى.
والمواد الغذائية موجودة في الأسواق القريبة، لكن الأسعار ارتفعت بشدة مع احتدام المعارك، مما جعلها بعيدة عن متناول سكان المخيم. وأصبح ثمن طبق الفول ستة أمثال ما كان عليه قبل الحرب.
وفي منتصف أبريل نيسان، وبعد مرور عام دون مساعدات غذائية، وصلت ثماني شاحنات مساعدات تابعة لبرنامج الأغذية العالمي إلى المنطقة محملة بالحبوب والزيت والدقيق.
لكن هذا لا يكفي. وقال سكان إن سوء التغذية والأمراض تفتك بهم.
وقالت أشيك كول نجور، وهي من جنوب السودان (30 عاما) من مخيم أبو جعرة، إن توأميها ماتا بعد 12 يوما فقط من ولادتهما في مايو أيار من العام الماضي. وحين سُئلت عن سبب موتهما، أجابت “من المرض والجوع”.
وأضافت أنها كانت تعاني من سوء التغذية وغير قادرة على إرضاعهما، وتعذر عليها الحصول على حليب صناعي لإطعامهما. وأكد مساعد طبي كان حاضرا حين توفي التوأمان في مستشفى ببلدة مجاورة رواية نجور.
وقال لوال دينق ماجوك، وهو أحد سكان أبو جعرة، إن عائلته بدأت تأكل أوراق الأشجار بعد نفاد المال في أواخر العام الماضي. وحين بدأ ابنه ديفيد (17 عاما) في التقيؤ وأصيب بالحمى، حمله ماجوك في عربة لمدة أربع ساعات لينقله إلى مستشفى حيث قال الأطباء هناك إن الفتى يعاني من الملاريا. والأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية عرضة لتدهور أوضاعهم الصحية. وقال ماجوك إنه بعد يومين توفي ابنه. ووضع جثة الفتى في العربة وأعاده إلى المخيم لدفنه.
ولم تتمكن رويترز من التأكد من مصادر مستقلة من سبب وفاة أبناء نجور وماجوك.
وفي مخيم زمزم بولاية شمال دارفور حيث رصدت منظمة أطباء بلا حدود ارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال، تواصل الأوضاع تدهورها. ويؤوي المخيم الآن نصف مليون شخص على الأقل.
وتوصل بحث أجرته منظمة أطباء بلا حدود هذا الشهر إلى أن نحو ثلث الأطفال دون سن الخامسة في المخيم يعانون من سوء التغذية الحاد، وفقا لجيروم توبيانا، مستشار المنظمة لشؤون اللاجئين. وقال لرويترز إن ثمانية بالمئة من هؤلاء الأطفال “معرضون لخطر الموت خلال ثلاثة إلى ستة أسابيع إذا لم يتلقوا علاجا على الفور”.
قال زكريا علي، وهو طبيب في مركز طبي بمخيم زمزم “لا يمر يوم بدون أن يصل إلي المركز ثلاث أو أربع حالات سوء تغذية حادة ومنهم حالة تنتهي بالوفاة”.
وحين كان علي يتحدث مع مراسلة رويترز عبر الهاتف، وصلت طفلة تدعى مواهب عمرها تسعة أشهر إلى المركز. وأجرى لها علي اختبارا سريعا لسوء التغذية بقياس محيط ذراعها.
كانت ذراع مواهب نحيلة جدا مما يعني وفقا لشريط قياس سوء التغذية أنها تعاني من سوء التغذية الحاد ويتهددها الموت.
رويترز
المصدر: صحيفة الراكوبة