تقولُ الحكايةُ اللّطيفة إنَّ نلسون مانديلا، الزّعيم الإفريقىّ الشهير، سُئلَ، عقبَ خروجه من السجن الطّويل، عن ماذا أدهشه فى العالم. ردَّ مانديلا بأنَّ ما أدهشه، حقّاً، هو (جهاز الفاكس). وقد صار الفاكس فى أيّامنا هذه، شيئاً متخلّفاً. بل لعلَّ الأجيال الجديدة لم تسمع به، حتّى.
مذيعُ فى قناةٍ عربيّة سألَ حسن التُّرابىّ، بعد خروجه من سجنٍ متطاول زجّته فيه حكومة الإنقاذ التى ابتدعها، وذلك عقب اتّهام المؤتمر الشّعبىّ بمحاولةٍ إنقلابيّة. مع الفارق بالطّبع بين سجن مانديلا وسجن التُّرابىّ. القصّةُ تقول إنَّ المذيع سأله عمّا أدهشه بعد خروجه من السّجن، فردَّ التُّرابىّ، ساخراً كعادته سخريّة مريرة: ” ما أدهشنى هو أنّ نافع على نافع بقى سياسي”.
شايف كيف؟
ونافع علي نافع، الأستاذ بكليّة الزّراعة، جامعة الخرطوم، كان مديراً لجهاز الأمن، فى تسعينيات القرن الماضى. طلبتْ إليه المخابرات الفرنسيّة أنْ يحضر إلى باريس، برفقة ضابطين معيّنيين، لاجتماعات دقيقة وحسّاسة، تتعلّقُ بوجود الإرهابىّ العالمىّ كارلوس فى الخرطوم. أخذَ نافعُ ضابطيْه المسمّييْن من قبل المخابرات الفرنسيّة وذهب. طوال الجلسات الأولى من الاجتماعات كان مديرُ جهاز الأمن ينكرُ إنكاراً حاسماً وجود كارلوس فى الخرطوم، بالرّغم من الصّور الفوتوغرافيّة التى أبرزتها المخابراتُ الفرنسيّة لكارلوس فى شوارع وأماكن واضحة فى الخرطوم.
فى واحدةٍ من الاستراحات بين الجلسات، قرّر الضابطان أنْ يحيطا مديرهما بالمعلومات. فقد كان (منظرُه بشعاً جدّاً)، وليحدث ما يحدث بعد عودتهم للخرطوم. فانتحيا به جانباً، وأخبراه أنَّ كارلوس حقيقةُ يعيش فى الخرطوم، منذ ما يزيدُ عن العام، وأنّهما كانا يولّيانِ أمرَه بتكليفٍ مباشر من حسن التُّرايىّ، الذى طلبَ ألّا يعرف نافع أو أىّ أحدٍ آخر عن الأمر شيئاً. الضّابطان كانا صلاح قوش وحسب الله عمر. رجعَ نافع لمواصلة الاجتماعات، معتذراً بأنّه لم يكنْ يعلم. فلقد كان (أطرشّ فى الزّفّة).
لكنّه قرّر لحياته فى بادية البطاحين وهم قومٌ يؤجّلون الثأر أنْ يثأر لنفسه وأنْ يردَّ الصّاع لحسن التُّرابىّ.
شايف كيف؟
أدارَ مع علي عثمان محمّد طه وقطبى المهدىّ ملف إغتيال الرئيس المصرىّ الأسبق، محمّد حسنى مبارك، فى القمّة الإفريقيّة، بأديس أبابا، عام 1994م. وقد تمَّ ذلك بعيداً عن التُّرابىّ، حتّى إذا فشلتِ المحاولة، وقُبِضَ على بعض المشاركين، وكان بعضُهم مخابرات مصريّة، وانكشفَ الأمر، تداعوا إلى منزل التُّرابىّ فى المنشيّة، يطلبون الرأىَ والدّبارة. وهى العمليّة التى أطاحتْ به من سًّدّةِ جهاز الأمن، ليأتى وزيراً للزّراعة محلّ تخصّصه وجماع معرفته فيما ظلّتْ عقدتُه “عقدة أمنيّة” بامتياز. سيخوضُ لاحقاً معاركَ لتصفية حساباته المؤجّلة مع صلاح قوش.
شايف كيف؟
باتّجاه المفاصلة، كان نافع علي نافع أحدَ الموقّعين على مذكرة العشرة. التى تشكّلُ العتبة الأولى باتّجاه “جهويّة” الحركة والحزب. فالتُّرابىّ كان حسب النّظرة العامّة مجرّد “عربى جزيرة”. يفجرُ إسحق أحمد فضل الله، بعد المفاصلة، فيجرّدُه من هذه الصّفة، أيضاً. إذْ صيّره “مجرّد فلّاتى”، جاء جدُّه من نيجيريا، عبر تشاد. إضافةً إلى أنَّ التُّرابىّ لم يكنْ حسّاساً تجاه مسألة تقدّم الغرّابة والجنوبيين فى الحزب والحركة. كان رجلاً بلا انتماءاتٍ جهويّة أو قبليّة. ذلك أنَّ الموقّعين على مذكرة العشرة كانوا، جميعاً، يمثّلون جهةً جغرافيّة، باستثناء حامد علي تورين، الذى يتساءلَ المرء عن سياقات وجوده وسط تلك الجوقة.
تتيحُ المفاصلةُ لنافع علي نافع أنْ يتقدّمَ ، سياسيّاً. دون أنْ ينسى بالطّبع عقدته الأمنيّة، وفشله المتراكم. فقد شغرتْ مواقع بمغادرة المؤثّرين مع التُّرابىّ إلى المؤتمر الشّعبىّ. لكنَّ نافع، سياسيّاً، كان أوضح فشلاً منه أمنيّاً، وهو مثار اندهاش التُّرابىّ، بعد خروجه السّجن، كما اندهش مانديلا من جهاز الفاكس. بدا نافع علي نافع مثل تيسٍ غشيمٍ فى بوادى البطاحين، نواحى “أبو دليق” و “تميد النّافعاب”، مستعدّاً باستمرار لمناطحة ظلّه، إذا لم يجدْ خصماً. صعدَ فصار مساعداً لرئيس الحزب للشؤون السياسيّة والتنظيميّة. لم تسلم منه جهةٌ ولا حزب. بعنتريّاتٍ سخيفةٍ، وصولاً إلى التحدّى الشهير فيما يتعلّق بالثورة على الإنقاذ وتغيير النّظام. “ألحسْ كوعك”. من أراد أنْ يغيّر الإنقاذ، يجب عليه أنْ يلحس كوعه.
شايف كيف؟
لم يلحس أحدٌ كوعه. تغيّر النّظام وأُدخِلَ البشيرُ ونافع وجلّ القيادت إلى السّجن. وتمَّ تقديمهم للمحاكمات، ذليلين، مثلَ أغنامٍ تقطّعتْ بها السُّبل، وأمطرتها السّماء بوابل. حتّى لم يعُدْ من مخرجٍ إلّا الحرب. العالمون ببواطن الأمور يعرفون التخطيط لها. التنادى والتحشيد للقضاء على الحريّة والتغيير والقوّة العسكريّة التى بدا أنّها تساندُ الانتقال وتحميه.
خرج نافع علي نافع بعد ماليزيا، التى استشعرَ بأنّها قمينةٌ بإعادة عقارب السّاعة للوراء. بذات سَمْتِ التَّيس النّزِق، المولع بالنّطاح، فنطحَ حائطاً. هل ثمّة بصيص ضوء، أملٍ، فى أنْ يستوعبَ نّافع وأقرانه النُّذُر؟ هل تسمعُ قلوبُهم الإشارات والتنبيهاتِ الإلهيّة؟ أمْ أنَّ على قلوبهم أقفالها؟
حسناً…
وضعَ نافع علي نافع شروطاً، لإصحاح الحياة السياسيّة فى السُّودان. أولها القضاء على الدّعم السّريع قضاءً مبرماً، حتّى لا يعود بوجهٍ من الوجوه إلى العمل العام. وذلك ضمنَ تحليله بأنَّ ثورة ديسمبر كانتْ “إنقلاباً”. غرّرتْ بنّافع، كما فعلتْ بغيره من الإسلاميين، الأسلحة الكيميائيّة، الطّيران المصرىّ، المسيّرات التُّركيّة والإيرانيّة، التى أجبرتِ الدّعم السّريع على الإنسحابات من سنّار، الجزيرة، والخرطوم، فظنَّ أنَّ (الحرب انتهتْ)، ولذلك فقد أعادَ اجترار عنتريّاته، فناطحَ المستقبل. لكنّه كسياسىّ وأمنىّ فاشل، لا يرى غير عودته الظّافرة لحكم السُّودان، وفقاً لشروطه.
شايف كيف؟
ليس فى مُكنته أنْ يلحظ التغيير فى الخارطة العسكريّة والسياسيّة. وذلك بسبب قيام حكومة تأسيس، وبسبب التغييرات فى خطط الدّعم السّريع العسكريّة. فقد جرى استيعابُ دروس سنّار، جبل مويا، الجزيرة والخرطوم. لا يستطيعُ خيالُ نّافع أنْ يرى على الأرض، وفى غمرة النّشوة، أنَّ الدّعم ذهب إلى (المالحة، الواحات، المثلّث، النّهود، الخوى وغيرها)، وبقىَ قريباً فى (جبرة الشّيخ، بارا، أم قرفة، أمْ سيّالة). وأنَّ الحرب لم تنتهِ، بل بدأتْ.
كيف ذلك؟
ذلك ما ستجاوبُ عنه الثلاثةُ أشهرٍ القّادمة

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.