خالد أبو أحمد

في سياق ما دأبنا عليه من تعرية وفضح لمناهج الحركة الاسلاموية في السودان نقول أن هذه (الحركة) لم ‏تسعى يوما إلى بناء منظومات معرفية تسهم في تطور البلاد وازدهارها، بل ركزت منذ البداية على صناعة ‏الجهل الممنهج وتوظيفه أداة للهيمنة والسيطرة على مقدرات الوطن. فقد أدركت مبكرًا أن المعرفة والوعي ‏الجمعي هما أكبر تهديد لمشروعها، لذلك اتجهت إلى السيطرة على العقول بشعارات دينية براقة لا تحمل أي ‏مضمون حقيقي ولا قيم تخدم الدين الإسلامي كما تزعم.

كانت الفكرة أن أي معارض لرؤيتها يُصوَّر وكأنه ‏يعارض الدين نفسه، رغم أن قادة هذه الحركة، في مظهرهم العام والخاص، لم يكونوا قدوة دينية ولا ‏اجتماعية ولا سياسية، لكن بفضل الإعلام الذي سيطروا عليه والمال الذي سرقوه من خزينة الشعب ‏استطاعوا أن يحولوا قطاعات واسعة من المجتمع إلى قطيع يُقاد بالشعارات أكثر مما يُقاد بالحقائق.

لتغبيش وعي المواطنين وتجهيلهم لعبت في ذلك الحركة الاسلاموية أدوارا عجيبة وقد ورسخت قياداتها لدى العضوية المغلوب على أمرها أكاذيب كثيرة أحيانا تكون مضحكة للحد البعيد، ‏مثلا في برنامج (في الواجهة) التلفزيوني في منتصف شهر يوليو 2004م الذي قدمه أحمد البلال الطيب ‏بمناسبة الاحتفال بالعيد الـ 15 على (الانقاذ).. ونشرته صحيفة (أخبار اليوم)، قال علي عثمان محمد طه ‏ووقتها كان نائبا أولا لرئيس الجمهورية في رده على سؤال مقدم البرنامج على طريقة (حمد والديبة حاجة ‏عجيبة) التي تعني إجادة تمرير الكرة بين اللاعبين والوصول المرمى.‏

قائلاً:
‏استطاعت الانقاذ أن تطرح رؤى واضحة من خلال تأسيسها لدستور البلاد يحتوي علي جملة من المبادئ ‏التي تصلح أساساً لادارة أوضاع البلاد في هذه الفترة وتؤسس للفترة المقبلة هذا الدستور في تقديرنا قد ‏تضمن حصيلة تجارب الحكم والادارة في السودان في الفترات الماضية ونظرا الي التجارب المعاصرة ‏والي المبادئ الدولية وتضمنها، ثم جاءت التجربة العملية بانشاء مؤسسات للدولة تأسيسا للامركزية الحكم ‏وتأسيسا للحوار الوطنى الحر والبناء لمناخ ديمقراطي يستطيع المواطن فيه فردا او مجموعة ان يعبر عن ‏ارائه ويشكل هذه الآراء ويجسدها في شكل مؤسسات تدير حواراً مفتوحا مع الساحة.‏

بطبيعة الحال هذه أكاذيب تغالط الواقع الحقيقي لا يصدقها إلا القطيع، فلا وجود لمناخ ديمقراطي، ولا مؤسسات تدير حوارا وطنيا.

وفي مثال آخر يسوق صّحاف السودان د. ربيع عبدالعاطي كذبة قوية بقوله “أن الرئيس عمر البشير أوقف أطول ‏حرب في تاريخ القارة الافريقية.. ولا يستحي أن يكرر هذا الكذب على اشهر القنوات الفضائية العربية، ‏والكل يعلم الحقيقة..!‏”.

وفي مكان آخر يقول الصحاف السوداني إن الانقاذ هي التي فتحت الباب للصين لتدخل أفريقيا، وأصغر ‏قارئ سوداني يعرف أن الصين دخلت افريقيا في نهاية الخمسينات عندما كانت تدعم حركات التحرر ‏الافريقي، إن مجموع هذه الأكاذيب والافتراءات كان الهدف منها هو جعل تلك العضوية ومن تعاطف معهم ‏على قناعة شديدة بأن الحركة (الاسلامية) تملك زمام أمرها فكرا وعلما وقوة أمنية وعسكرية واقتصادية ‏وتنظيمية، وفي هو في الحقيقة تغييب كامل عن الوعي الحقيقي، ترك أثره الكبير في وجود هذا الكم الهائل ‏من القطيع.‏

اغتيال فرج فودة في مصر..نموذج صناعة الجهل

هذه النقطة تذكرني بما جرى في مصر مع اغتيال المفكر المصري فرج فودة عام 1992م فحينما سُئل قاتله ‏في التحقيق: لماذا قتلته؟ أجاب: لأنه كافر. وحين سأله المحقق: من أي كتاب استنتجت ذلك؟ قال: لم أقرأ كتبه. ‏ثم اعترف في النهاية: أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة. هذه الحادثة لم تكن مجرد تفصيل في محضر قضائي، ‏بل برهان حي على الطريقة التي تُنتج بها الجماعات الإسلاموية القطيع. فالرجل لم يكن يعرف القراءة من ‏الأساس، ومع ذلك اندفع لقتل إنسان لم يقرأ له كلمة واحدة، فقط لأنه ابتلع خطاب الكراهية الجاهز الذي غذته ‏ماكينة التحريض باسم الدين.

وفي السودان تكشف سنوات حُكم الحركة (الإسلامية) الكثير من الأمثلة المشابهة، فعندما خرج الشعب في ‏ثورة ديسمبر المجيدة، كان أنصار الحركة يتحدثون عن إنجازات الإنقاذ، بينما التزموا الصمت المطبق ‏عندما بثت قناة العربية سلسلة حلقات الأسرار الكبرى للتنظيم الحاكم في السودان هناك ظهر نائب الرئيس ‏وقتها حسبو محمد عبدالله في اجتماع سري للحركة قائلاً بوضوح: إخواننا في الحركة الإسلامية دمروا ‏الاقتصاد، وشرح بنفسه الطريقة التي تم بها التلاعب بأسرار الدولة.‏

كما كشفت حلقات برنامج شاهد على العصر مع الصحفي أحمد منصور على قناة الجزيرة، والتي سُجلت مع ‏الراحل د. حسن الترابي عام 2010 وبُثت عام 2016، تفاصيل خطيرة حول محاولة اغتيال الرئيس ‏المصري الأسبق حسني مبارك، وأسماء المتورطين وعلى رأسهم علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع. ‏واعترف الترابي بأن تصفيات داخلية طالت عناصر سودانية بأوامر علي عثمان محمد طه، نُفذت بطرق ‏وحشية لا يعرفها المجتمع السوداني. ومن أبشع الأمثلة ما جرى مع المهندس علي أحمد البشير، الذي صُفي ‏أمام زوجته وطفلته الصغيرة التي ما زالت تعاني صدمتها حتى اليوم. كانت تلك الجرائم جزءًا من ‏استراتيجية الحركة للسيطرة على المنطقة، خُصصت لها أموال طائلة، وامتد أثرها إلى دول القرن الأفريقي، ‏، إزاء هذه الحقائق التي لم يعتادوا على سماعها صدموا صدمة شديدة، ثم غابوا عن الساحة فترة من الزمن ‏ثم عادوا من جديد ينشروا الأكاذيب ضد الآخرين.‏

المرتزقة وصحافي ‏المارينز..!

في المجال الصحفي والإعلامي والتعليمي، مارست الحركة سياسات ممنهجة لإضعاف وعي المواطنين، إذ ‏لم يكن مسموحًا نشر أي مادة لا تتفق مع خط التنظيم الحاكم، فأسسوا عدد من الصحف البائرة التي توقفت ‏تلقائيا بعد أن فشلت في تبليغ رسالتها الرامية إلى خلط الاوراق وتزييف الحقائق مثل صحيفة (العاصمة) ‏و(الحرة) وغيرها، والكثير من العاملين فيها من الفاشلين في العمل الصحفي، بالنسبة للاجهزة الاعلامية ‏فمنعت من بث أغنيات لفنانين كبار مثل أبوعركي البخيت، كما مُنعت المعارض الفنية والندوات الأدبية، في ‏مقابل التركيز على الأناشيد الحماسية التي تحفز الشباب على القتال في ساحات المعارك.‏

الحركة (الاسلامية) أسست عدداً من الصُحف الموالية لها وأشاعت أنها صُحفاً مستقلة بعد أن فكت ‏ضوائق ‏من قاموا عليها من أجل الترويج للكذب والدفاع عنه، صحف تمثل صناعة ‏تحويلية، تحول الهزيمة النكراء ‏إلى انتصار تاريخي كبير، تُحول الحقائق الظاهرة مثل الشمس في ‏رابعة النهار إلى أكاذيب ..وادعاءات ‏تصف من يتحدث بغيرها بالمرتزقة وصحافي ‏المارينز..والخونة..الذين باعوا أوطانهم بثمن بخس

لكن العزاء الوحيد أن هذه (الصناعة) خلت تماما من الصحفيين المهرة والمبدعين بل ‏هم مجرد كمبارس ‏يؤدون ادواراً لا يعرفون أهميتها وتأثيرها على الاوضاع، فهي صناعة تخلو من ‏أصحاب الموهبة والحس ‏الوطني، إن صناعة الصحافة (الحكومية) التابعة للتنظيم الحاكم برغم ‏امكانياتها المالية المهولة فشلت في ‏اقناع السواد الأعظم من السودانيين بالانخراط في مؤسساتها الفاسدة، وإذا ضربنا مثلا بالراهن الماثل أمامنا ‏كم لدى الحاكمين الآن من اقلام وطنية رصينة يحترمها السودانيين..؟، وفي المقابل كم من العشرات من ‏الاقلام الوطنية الرصينة ومن المحللين الذين يجدون التقدير والاحترام من الشعب السوداني..؟!. ‏

الاقلام التي باعت ضمائرها

جميعا ندرك أن الاقلام التي باعت ضمائرها لنظام الأمر الواقع يرددون ما يردده الحاكمين بوعى أو دون ‏وعى، وبهؤلاء استقوت الطبقة الحاكمة فلجأت إلى تعطيل مؤسسات المسؤولية والمساءلة أو تحولها إلى ‏أدوات فى يدها بشكل خاص الصحافة كمؤسسة معرفية، ومن ثم عطلت الحريات والحقوق المدنية لتمرير ‏التجاوزات المالية والاخلاقية التي اعتادوا عليها.‏

بالتوازي جرى تفريغ التعليم من محتواه النقدي والمعرفي. أُعيدت صياغة المناهج لتجعل الطالب يحفظ ولا ‏يفكر، والجامعة تحولت إلى مصنع لإنتاج كوادر حزبية بدلًا من أن تكون مركزًا للبحث والمعرفة. وبذلك ‏تأسست مؤسسة كاملة للجهل الممنهج، تنتج أجيالًا مبرمجة على السمع والطاعة أكثر من قدرتها على التفكير ‏والإبداع، وهو ما ترك أثرًا طويل المدى في نشوء جيل يعاني من أزمات متعددة.

اعتمدت الحركة أيضًا على خطاب شعبوي بسيط يَعِد الفقراء بالجنة في الدنيا والآخرة، ويلقي المسؤولية عن ‏الفشل على “الأعداء الوهميين” كالخارج أو المعارضة أو العلمانيين. بهذا الخطاب اجتذبت الرجرجة ‏والدهماء، أي الفئات الأقل تعليما ومعرفة والأكثر تهميشًا، لتكون جدارًا أمام أي محاولة للتغيير يقودها المثقفون، ‏وهكذا جرى تحويل الغضب الشعبي من مواجهة الفساد إلى مواجهة خصوم مختلقين.

الأخطر أن الحركة أفرغت الدين نفسه من مقاصده الكبرى فبدل أن يكون سياجا للعدالة والقيم، تحول إلى ‏شعارات سطحية تُستخدم فقط للتبرير السياسي، وبفعل الجهل أصبح الناس يقبلون كل ما يُفرض عليهم باسم ‏الإسلام، حتى لو كان ظلمًا أو فسادًا، صار الدين في المخيال الشعبي مقترنًا بالسلطة، وأي معارضة للحاكم ‏تعني معارضة العقيدة، وهو ما يتجلى حتى اليوم.

هذا المنطق لم يقتصر على العامة وحدهم، بل طال النخب أيضًا. فقد قال الفريق ياسر العطا عندما كان يعمل ‏مع لجنة إزالة التمكين: “أقولها بكل صدق وأمانة وللتاريخ: أعضاء لجنة إزالة التمكين محمد الفكي ووجدي ‏صالح وطه عثمان وخالد عمر من أنزه أبناء السودان”،  ‎لكنه بعد أن أصبح جزءًا من ماكينة النظام الحزبية، ‏صمت وتجاهل كل الإساءات التي وُجهت لأعضاء اللجنة من شركائه في المجلس العسكري. هذه المفارقة ‏تكشف كيف يمكن للمنظومة أن تعيد تشكيل المواقف حتى لقادة يفترض أنهم في موقع المسؤولية والوعي.

زراعة الجهل

في المحصلة النهائية لم تكتفِ الحركة المتأسلمة في السودان بزرع الجهل، بل تعمّدت أن ‏تصنعه صناعة متقنة وتغذيه بكل الوسائل ليصبح السلاح الأمضى لبقائها، خلقت قطعانا من ‏البشر مسلوبي الإرادة والوعي، يدافعون عنها كما يدافع الأعمى عن جلاده، وحوّلت الدين ‏العظيم إلى مجرد عصا ترفعها كلما أرادت أن تُسكت الأصوات الحرة أو تُبرر فسادها ‏واستبدادها، ربطت لقمة العيش بالإذعان، وجعلت الولاء للتنظيم أثمن من الولاء للوطن، ‏فاستمرت عقودًا طويلة رغم فشلها المدوّي في السياسة والاقتصاد والأخلاق.

لقد كان جهلها المصنوع أقوى من أي جيش وأمضى من أي اقتصاد، وقودًا يُشعل ماكينة ‏الكذب والقمع حتى هذا اليوم. وما يدعو للأسى أن تجد بين ضحاياها من يحمل أعلى الشهادات ‏الجامعية وما فوقها، لكنه يلهث في الدفاع عن تنظيم دمّر البلاد ومزّق نسيجها الاجتماعي ‏ونهب ثرواتها، ثم لا يتورع عن رمي خصومه بتهم باطلة: العداء للدين، أو العمالة للكفار. إنها ‏قمة الانحدار: أن يتحول العلم نفسه إلى خادم للجهل، وأن يتوارى العقل خلف أوهام زرعتها ‏جماعة متعطشة للسلطة والدمار.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.