حسن عبدالرضي الشيخ

حسن عبد الرضي الشيخ

✍ بصوت وقلم: معلم الخرطوم “المصدوم”، المظلوم

في قلب الخرطوم، حيث كانت المدارس يومًا منارات علم وضوء، يقف المعلم اليوم على أطلال مهنته، منهكًا من شظف العيش، محطمًا تحت ثقل المعاناة. معلمات ومعلمون في بلدان اللجوء يعجزون عن دفع إيجار شقة، فكيف تنتظر منهم أن يدفعوا أجرة ترحيلهم وأطفالهم إلى الخرطوم؟ ومعلم نازح هائم على وجهه في ولايات السودان، لا تسعفه الظروف ليدفع أجرة البص إلى الخرطوم، فكيف نطارده بالسوط الغليظ لا بالصوت اللين، ليعود وقد فقد كل شيء: بيته وكرامته، إذ هو لعام كامل بلا مرتبات ولا استحقاقات، وعامان بلا بدلات أو منح، ولا ترقيات ولا فروقاتها، ولا بيئة تعليمية تحفظ كرامة المعلم أو الطالب. المدارس بلا كتب، بلا إجلاس، بلا وجبة فطور، بلا أجرة ترحيل، بل حتى بلا تلاميذ أو طلاب في كثير من الأحياء التي هجرها المواطنون.

ورغم هذا الخراب، تصر وزارة التربية بالخرطوم على إرغام المعلمين على الحضور إلى مدارسهم، وكأنها تقول لهم: موتوا وقوفًا! فهل إدارات التعليم هذه من جنس المعلمين، أم أنهم مخلوقون من طينة أخرى؟ من للمعلم اليوم ومرتبه لا يكفي مصاريف أسبوع واحد؟ ومن أين تعتاش أسر أولئك المسؤولين في الإدارات التعليمية؟ أهي موارد خفية لا نعلمها؟ أم أن هناك أبواب رزق فُتحت لهم وأُغلقت في وجه المعلم؟ إن البؤس الحقيقي ليس في عدم تهيئة بيئة التعليم، وليس في تهميش المعلم، وإنما البؤس يأتي من هذه القرارات المتعسفة التي تُتخذ على عجل بلا دراسة، مع علمنا أن وزارة التربية قد أجرت بحثًا لحالة المدارس، لكنها تعمدت أن تستثني المعلمين من هذا البحث. لا أدري، ما الهدف من هذا الاستثناء؟ هل يعتقدون أن سياسة “جوع كلبك يتبعك” ما زالت سارية المفعول، أم أنهم قد اقتنعوا أن “ما لجرح ميت إيلام”؟ مثل هذه القرارات هو ما يؤخر التعليم في بلادنا وما يؤخر نهضتها.

وقد عبّر صديقي الدكتور يوسف دفع الله عن هذه المأساة، بلسان حال مسؤول “راح ليه الدرب في الموية”، قائلًا:

“احتجاج المعلمين لا مبرر له. يجب أن تحضروا إلى مدارسكم في المواعيد المقررة لقتل الأفاعي والعقارب، ونظافة المدرسة، وحصر التلاميذ، والتحفظ على المخازن والموجودات، وتصريف مياه الخريف. واعلموا أن كل تلميذ يحضر إلى المدرسة على مسؤوليتكم: طعامه، سلامته، نظافته. وعليكم توفير مياه الشرب، وإجلاسه، وتوفير كل معينات التعليم من طباشير ووسائل تعليمية، وتنزيل المناهج من الإنترنت كما تعودتم. ويجب عليكم قطع الأشجار البرية والمتسلقات. لا تتحججوا بعدم وجود السكن، يمكنكم السكن داخل المدرسة أو في مخيمات أو العراء. أما عصابات (تسعة طويلة) فعليكم مقاومتها كما تعودتم على مواجهة التلاميذ الجانحين. معلوم أن مرتباتكم لا تكفي أكل ثلاثة أيام، لكن يمكنكم صيد العصافير، أو الذهاب إلى التكايا، أو التسول. ولا أنصحكم بالديون. أما اللبس… فهل من الضروري أن تلبسوا؟ وإن أصابتكم حمى الضنك أو الكوليرا أو الملاريا، فيمكنكم أن تموتوا… نعم، موتوا بكرامتكم، لأنكم أصلًا أموات.”

هذا هو الواقع المؤلم الذي يعيشه المعلم في الخرطوم اليوم، واقعٌ يليق بعصور الانحطاط، لا بعاصمة كان يفترض أن تنهض على أكتاف أبنائها. إننا لا نكتب هنا لنستجدي العطف، بل لنصرخ في وجه الظلم: المعلم ليس عبدًا ولا متسولًا، والمعلم الذي يُهان اليوم هو الذي يُهان معه مستقبل الوطن كله.

يا إدارات التعليم، كيف تنتظرون وترجون الاحترام من زملائكم المعلمين؟ إنها أكبر كارثة تربوية أن يفقد زملاؤكم الثقة فيكم! وإذا فقدتم احترام زملائكم فلن تجدوا من يبكي عليكم. لا تخدعوا أنفسكم بأنكم ترعون مصلحة التلاميذ وتساهمون في نهضة البلد، فلن يصدقكم أحد، فالذي لا يقدّر ظروف زملائه فهو عن تقدير غيرهم أعجز. وأي بلد تنهضون بها وأنتم أعجز عن إنصاف زملائكم؟ كيف تقنعون أحدًا أنكم حريصون على التعليم وأنتم تساهمون في إذلال زملاء مهنتكم؟ لِمَ لا تدافعون عن حقوق المعلم؟ أم أن إهانة المعلم أصبخت من ركائز نهضة البلاد؟ فهل لي أن أنصحكم، أيها (المعلمون!!) الإداريون؟ إذًا فاسمعوا جيدًا: ليس لكم من سبيل لحفظ ماء وجوهكم وصون كرامتكم إلا طريقان؛ إما أن تتزعموا مسيرات الاحتجاج على هذا الواقع الأليم، وإما أن تتقدموا باستقالاتكم.

إنها نصيحة صادقة من زميل لكم يقدّر حق الزمالة ويعرف معنى الأخوّة، زميل ما زال يتعشم أن نحتفظ جميعنا، معلمات ومعلمين، بإحترام بعضنا بعضا. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد!

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.